في حضرموت ما قبل الإسلام وحتى الآن .. (الرناد) حصن دفاع وقصر حكم بتريم وحصن النجير من أعظم القصور

في حضرموت ما قبل الإسلام وحتى الآن .. (الرناد) حصن دفاع وقصر حكم بتريم وحصن النجير من أعظم القصور
متابعات بلاريش>«الأيام» علوي بن سميط:

(الرناد) حصن من الحصون القديمة في حضرموت، يقع في مدينة تريم، بُنيَ في زمن ما قبل الإسلام، ولعله أقيم كحصن دفاعي وقصر للحكم، خصوصا وأن ملوك الجاهلية اتخذوه مقرا لهم، وكذا الدويلات والدول التي حكمت تريم، أو التي امتد حكمها إلى أجزاء أخرى من حضرموت.
ولعل أهم الترميمات والتوسعات فيه جرت في عهد السلطان عبدالله بن راشد بن شجعنة بن فهد بن أحمد بن قحطان.. ويذكر المؤرخ محمد أحمد الشاطري في (أدوار التاريخ الحضرمي - ج 1 ص171 ط 94م) أن السلطان عبدالله تولى السلطنة في 593هـ بعد وفاة أخيه شجعنة بن راشد، إلا أن ترميم وإعادة القصر على يد عبدالله بن راشد سلطان دولة آل راشد الحضرمية كان في عام 600هـ.. ويؤكد كل المؤرخين عام التجديد أو الترميم.
على الأنقاض (الرناد) من جديد
كحصن للدفاع والحكم استأثر به من سيطر على تريم شهد الرناد ترميما أو تجديدا أو إضافات منذ القرن السابع الهجري، مما يعني تغيير كثير من معالمه.. ولأهميته العسكرية والسياسية تنازعت عليه سلطات يافع التي سيطرت على أهم مدن الدولة الكثيرية الأولى إثر تفككها وانحسارها، فسيطرت القبائل اليافعية أو اقتسمت حكم تريم بين آل غرامة وآل بن عبدالقادر وآل همام، والأخير سمي بصاحب الرناد لأنه وقع تحت إدارته، إلا أن الدولة الكثيرية الثانية (قبل قرنين ونصف القرن مضت) استعادت سيئون وتريم، واعتبرت تريم أهم مدنها بعد العاصمة سيئون، وسيطرت على حصن الرناد الذي أضحى مقرا لممثل السلطان الكثيري - نائب السلطان بتريم أو حاكم تريم- وأضحى القصر تحت السلطنة الكثيرية حتى أكتوبر 1967م.
وفي ثلاثينيات القرن العشرين تعرض الرناد للتشييد مرة أخرى وبنمط معماري جديد، واعتباره قصرا للحكم.. ويذكر المؤرخ محمد بن أحمد الشاطري في كتابه (أدوار التاريخ الحضرمي - ج1- ص54 - ط 1994م): «حصن الرناد بتريم الذي بني على أنقاضه قصر سلطاني وفيه إدارة نائب لواء تريم».. وفي عام 1931م أمر حاكم تريم محمد بن محسن الكثيري بهدم القصر وإعادة بنائه من جديد وبالصورة التي نعرفها إلى اليوم، أي على أنقاض القديم، فالقصر بهذا الشكل هو في الأصل قائم منذ القرن الماضي، ولعله أخذ وقتا طويلا في البناء حينها.. ويذكر مؤلف كتاب (تريم بين الماضي والحاضر) أحمد عبدالله بن شهاب في (ج1 ص15 الطبعة الأولى 2005م): «كُتِب على البوابة تاريخ الانتهاء من صنعها في 1354هـ».
هكذا بقي حصن الرناد أو القصر معقلا للدولة الكثيرية الأولى فالثانية، ثم أضحى منذ 1967م تحت سيطرة الجبهة القومية التي كانت تدير تريم وضواحيها من بين ردهاته، ثم أصبح مقرا للسلطة الإدارية، باعتبار المدينة عاصمة إدارية (مركزا)، واستوعب عدة مرافق حكومية وأمنية.
وبدأ الإهمال يبدو على القصر في الوقت الذي كان يضم المجلس المحلي لمديرية تريم وإدارات أخرى.. وقبل ثلاث سنوات من اليوم بدأ جديا العمل للحفاظ عليه بعد أن هجرته مرافق الدولة لوضعيته السيئة، وفي 2006م بدأ التفكير بإعادته وترميمه ليصبح بعد الانتهاء منه مركزا ثقافيا ومتحفا ومركز توثيق، وأقدم المجلس المحلي لمحافظة حضرموت والمجلس المحلي لتريم بخطوات منذ 2005 حتى 2006م وأقر رسميا ترميم القصر بكلفة تزيد على 190 مليون ريال يمني على نفقة الحكومة ومحلي حضرموت وبإشراف هيئة المدن التاريخية، وقد بدأ فعليا العمل فيه بمقاولة منذ نهاية 2006م وأوائل 2007م، ومازال العمل جاريا فيه.. المأمول في الأعمال الحالية أن تظهر شيئا مما هو تحت أنقاض قصر اليوم، مثلما أظهرت الأعمال في ثلاثينيات القرن الماضي عددا من النقوش وعثرت على تمثال رخامي أبيض، أي قبل مايقارب من 80 عاما مضت، لتؤكد أن القصر وجد منذ ماقبل الإسلام .
وصف الشكل الهندسي للرناد والطراز المعماري
الوصف المعماري الذي ننقله هو ذاته حتى اليوم (2008م)، وهو قائم كما أشرنا منذ القرن الماضي كآخر تجديد أو تغيير وتشييد وتوسع، حيث تصفه د.سلمى سمر الدملوجي المهندسة المعمارية المتخصصة في العمارة الإسلامية والعربية التي بدأت منذ بداية الثمانينيات في دراسة فن العمارة في تريم وعدن وشبام ويافع، وهي أول متخصص يضع الخطوات العملية في كيفية الحفاظ على الهوية المعمارية في شبام وتريم، وتحليل الإشكاليات وكيفية الحفاظ عليها.. د.سلمى الدملوجي وصفت الرناد في زيارتها العملية البحثية في وادي حضرموت في 1981م في كتابها (وادي حضرموت هندسة العمارة الطينية - مدينتا شبام وتريم ص294 ط 1990م) بالقول:
«أطلق على الحصن وقصر السلطان الكثيري السابق منذ الثورة اسم قصر الشعب، أما عمارته فشبيهة بطراز بيوت النخبة في تريم وسيئون مع التشديد على الأبهة، نظرا لمكانته وقوامه المهمين كمركز للسلطة السياسية.. المبنى (حصن الرناد) المشيد برمته بطوب الطين والمؤسس من الحجر يغلب عليه الثأثر بالطراز الكولونيالي الذي يسود فيه الأداء النيوكلاسيكي الأوروبي، هذا الأداء يبدو أكثر وضوحا على واجهات القصر الخارجية، حيث الأعمدة الدورية الناتئة متجمعة على جدران السور الجانبية كما يبدو في التزيين الزخرفي للمدخل، حيث واجهة الرواق المعمّد، المتوج بقوصرة (مثلث علوي) نهضوية أوروبية، والمتشكل من عدد من الأقواس الرومانسكية نصف الدائرية، مما لم يكن في ما سبق ميزة للعمارة الحضرمية أو الإسلامية.. إن المخطط الداخلي، والنسب وتصميم فضاءات قصر الرناد يجعله واحدا من أجمل القطع المعمارية والتصميمية، وهذا يتضح على أحسن وجه في تتابع الفضاءات الداخلية، وفي الفصل بين الفضاءات العامة والخاصة، وأخيرا في تتالي الفناءات المفتوحة وفي سعة الغرف المغلقة التي ترتبط بواسطة سلالم وممرات متنوعة، وجميعها مطلية بالأبيض ومتشكلة برصانة تعبر عن النوعية للتصميم الحضرمي بناءً وتخطيطاً».
عموما فإن وصف د. سلمى الدملوجي هو ذاته منذ أن بني بهذا الطراز في ثلاثينيات القرن الماضي على أنقاض ما سبق وبقي حتى اليوم، ويعد الرناد أيضا معلما من معالم تريم حضرموت.
حصن (النُجير) من أعظم القصور
من أهم الحصون القديمة في حضرموت والجزيرة عموما، وغالبا يأتي هذا الحصن (النُجير) كعلم بارز في تاريخ العرب، ويقع - كما يذكر العديد من الباحثين - شرق تريم بنحو 15 كيلو. بني قبل الإسلام على يد كندة، ولاتعرف تحديدا أي من الخرائب والأطلال المتناثرة في وادي حضرموت الفسيح، ويحدد الهمداني لمن من كندة هذا الحصن، إذ يقول: «(النُجير) لبني معد كرب بن كندة..». (الإكليل - لإبي محمد الحسن الهمداني الذي توفي سنة 280هـ - تحقيق محمد علي الأكوع الحوالي ج ( ص123 - طبعة 2004). كما يذكر الهمداني أنه أصبح خرابا حسبما جاء في كتابه (صفة جزيرة العرب - ص 169 الطبعة الأولى 1990). والنُجير حصن كان لكندة، وهو اليوم خراب، وينسب إليه يوم النُجير في أيام الردة.
شهرة النُجير
جمع هذا الموقع (النُجير) كحصن دفاع وقصر لملوك كندة أو لرؤساء وزعماء، لما يستوعبه من أعداد غفيرة، مثلما تحصن فيه أكثر من ألفي شخص ومحارب من مختلف بطون كنده أثناء معارك الردة، بل إن عددا من المؤرخين ذكروا أن الأعداد- حينذاك- التي تواجدت تفوق ما ذكرناه من العدد، ولشهرته ورد اسم الحصن في أبيات قصائد لشعراء العرب كقول شاعر:
وذاع صيت الحصن في كل الأصقاع مع حادثة سنأتي على الإشارة لها إلى جانب أنه كموقع شهير اقترن أيضا بشخص شهير في أنحاء الجزيرة العربية، هو الأشعث بن قيس بن معدي كرب الكندي.
والأشعث من أوائل الذين قدموا من جنوب الجزيرة لإعلان إسلامهم حتى وصلوا إلى عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولعل ذلك نهاية السنة التاسعة للهجرة، ويذكر أبو الفداء الحافظ بن كثير عن قدوم أشعث: «قال ابن إسحاق: وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم الأشعث بن قيس في وفد كندة، فحدثني الزهري أنه قدم في ثمانين راكبا من كندة، فدخلوا على الرسول مسجده..». (البداية والنهاية ج (3) ص685 طبعة 1998).
الأشعث يحاصر تريم ثم يتحصن في النُجير
في السنة الحادية عشرة للهجرة توفي الرسول صلى الله عليه وسلم، وأصبح سيدنا أبوبكر الصديق خليفة المسلمين، ووقعت في ذلك الوقت ردة بين عدد من قبائل العرب، وفي حضرموت ارتدت أعداد من بطون قبيلة كندة بزعامة الأشعث الكندي، ولسنا هنا بصدد تحليل ظروف وأسباب الردة التي لم تدم أكثر من عام ونصف، حينها كان زياد بن لبيد البياضي الأنصاري عاملا على حضرموت منذ ما قبل وفاة الرسول، وأقره الخليفة الأول، وعندما لم تذعن المجاميع المرتدة في حضرموت قاتلها ومعه أيضا بطون وفخائذ من كندة وقبيلة حضرموت، فيما يقود المعسكر الآخر الأشعث الذي تفوق في بداية الأمر، وحاصر زياد ومن معه في مدينة تريم فترة طويلة ليصل المهاجر بن أبي أميه قادما من صنعاء عبر صحراء صيهد الحضرمية لفك الحصار عن المسلمين وقتال المرتدين، ساعتها رفع الأشعت حصاره عن تريم كتكتيك على ما يظهر، خصوصا أن القوة التي وصلت كبيرة عددا وعتادا، لكن ما إن دخلت إلى المدينة حتى عاد الأشعث بن قيس وأحكم الحصار على تريم مرة ثانية وبقوة.
ومن كتاب (تاريخ حضرموت الاجتماعي والسياسي قبيل الإسلام وبعده) تأليف د.سرجيس فرانتسوزوف: «قام الأشعث بجمع المقاتلين من فروع كندة جميعهم بهدف التقويض النهائي لقوة المسلمين، وقد انضم إليه بنو الأرقم وبنو حجر وبنو خمر وبنو هند». (كتاب تاريخ حضرموت - ترجمة عبدالعزيز بن عقيل ص109 طبعة 2004).
ومن المرجع نفسه نتابع سير الأحداث، إذ جاء في ص 111: «واستطاع المسلمون الانتصار النهائي على المرتدين بعد قدوم فصائل عكرمة بن أبي جهل الذي قدم من جهة المشرق، بعد إخماد الردة في عمان والمهرة، وفك الحصار عن تريم، وانسحبت قوات المرتدين إلى حصن (النُجير) بقيادة الأشعث، ومعها مجاميع من السكون والسكاسك وحضرموت، وقطع المسلمون منافذ الطرقات الثلاثة المؤدية إلى حصن النُجير». بقي الأشعث ومعه داخل الحصن نحو ألف رجل وامرأة، ومصادر أخرى تقول سبعمائة محارب، متمكنين من فرسان بطون كندة وقبيلة حضرموت، متحصنين بالنُجير ومحاصرين فيه، وفي الوقت ذاته انضمت بطون وقبائل من كندة وحضرموت إلى قوات زياد والمهاجر وعكرمة.. الحصار مستمر والإمدادات نحو الحصن قطعت، والمحاربون، بل حتى النساء والأطفال في الحصن خارت قواهم، فاقترح الأشعث المفاوضات وفتح الحصن أمام فصائل المسلمين، وتم أسر أعداد كثيرة، وقتلت أعداد كبيرة من المحاربين.
من (النُجير) في حضرموت لأشعث أشهر قادة الإسلام
أرسل الأسرى من كندة، وعلى رأسهم الأشعث بن قيس إلى المدينة عند الخليفة سيدنا أبوبكر الصديق رضي الله عنه، الذي فك وثاق الأشعث، وتحدث إليه وأفرج عن أسراه بفدية عن كل شخص دفعها الأشعث، فهو مقتدر ماديا وملك من ملوك كندة وزعيم بين القبائل قبل إسلامه، ثم عند إسلامه أمام رسول الله وعند ردته التي اعتبرها الكثير عثرة. وصفح أبوبكر عن الأشعث وزوجه أخته أم فروة بنت أبي قحافة، ويشهد التاريخ أن هذه الشخصية تبوأت مراكز قيادية في الفتوحات الإسلامية، إذ شهد اليرموك في الشام والقادسية في العراق، وسكن في الكوفة ومعه قبائل حضرموت، وسميت أحياء كندة في الكوفة بمناطق معروفة لدى سكان الكوفة (السكون، حضرموت، وكندة)، إذ أنشأ هذه الخطط السكنية سعد بن أبي وقاص بأوامر الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه إكراما للأشعث الكندي القادم من حضرموت، الذي قاد ألفا وسبعمائة محارب في موقعة القادسية سنة 15هـ. وعاش هذا القائد مراحل زمن الخلفاء الأربعة (أبوبكر وعمر وعثمان وعلي)، وعند تولي سيدنا علي كرم الله وجهه كان الأشعث واليا على أذربيجان ومقيما بها منذ فتحها، ويذكر «وكتب- أي سيدنا علي- إلى الأشعث، وكان مقيما بأذربيجان طول ولاية عثمان.. ويقال إن الأشعث هو الذي افتتح عامة أذربيجان..». (كتاب الأخبار الطوال لأبي حنيفة أحمد بن داوود الدينوري (المتوفى 282هـ) ص 226 طبعة 1/ 2001).
ويقول أيضا المؤرخ أحمد بن أبي يعقوب في كتابه (تاريخ اليعقوبي - ص 200 ج 2): «الأشعث بن قيس كان عامل الخليفة علي بن أبي طالب بأذربيجان».
تحرك والي أمر المسلمين على أذربيجان باتجاه جزيرة العرب بناء على أمر سيدنا علي وبايعه، ومرت الأيام، وشهدت الدولة الأسلامية أحداثا، واستقر الرجل المقدام القادم من وادي حضرموت، وتوفي في الكوفة، وصلى عليه الحسن بن علي بن أبي طالب. وهكذا مرت حياة رجال من حضرموت حكام وقيادات من (النُجير) الذي أصبح خرابا في الوطن الأم، أسسوا قصورا وحصونا في أطراف وأصقاع الأرض.
طمر النُجير ومات الأشعث، وكلاهما شاهد على أحداث ومآثر، محيطها ونطاقها حضرموت والمدينة والشام والعراق وأذربيجان.