متابعات بلاريشمن حق اليمن المطالبة بتعويضات بريطانية عن استعمار دام 130 عاماًفاروق لقمان:حقق الرئيس الليبي معمر القذافي ونظيره الإيطالي سيلفيو برلسكوني اتفاقية تاريخية بكل المعاني وافقت إيطاليا بمقتضاها على دفع ما يساوي خمسة مليارات دولار في شكل تعويض - رمزي على كل حال - عن استعمارها الشرس للمملكة الليبية كما كانت تُدعى أيام الملكية السنوسية حتى عام 1951، وهي بدون شك وإن كانت ضئيلة المضمون لأن المبلغ لا يساوي بناء مصافي نفط متواضعة في الصحراء ستؤدي إلى مسلسل طويل ومعقد من المفاوضات بين المستعمرات السابقة والدول الأوروبية - والأمريكية واليابانية - التي استولت عليها ومصت خيراتها وهدمت اقتصادها.
موجز الاتفاقية هو أن إيطاليا ستقوم لصالح ليبيا ببناء طريق معبد من حدود تونس إلى حدود مصر مروراً بليبيا بعد سنين طويلة ومضنية من المحادثات بين البلدين. وقد يسر ذلك قبول وتنفيذ ليبيا دفع تعويضات باهظة لضحايا طائرة لوكربي الشهيرة والطائرة الفرنسية في إفريقيا اللتين انفجرتا في الجو بفعل أفراد أو أجهزة مخابرات ليبية في عمليتين انتقاميتين من أخطر ما حدث في النصف الثاني من القرن الماضي.
لكن المهم في الأمر أولاً: اعترفت بهما ليبيا ودفعت الثمن نقداً. ثانياً أقلعت عن كافة برامجها النووية وسلمت شحنات هائلة من المعدات للولايات المتحدة مجاناً. ثالثاً قبلت إيطاليا مبدأ تسديد بعض تكاليف الاستعمار الذي دام خلال النصف الأول من القرن العشرين من 1911 إلى 1951 واستغلت خيراتها بعدما قضت على بعض خيرة رجالها ونسائها ومن بينهم الزعيم خالد الذكر عمر المختار. ولما قمت بزيارتها منذ أعوام كنت أرى الفيلم الذي أخرجه الراحل الكبير مصطفى العقاد يمر أمامي على مئات الشاشات بدون توقف وكأنه يقول للشعب وزواره مثلي لا تنسوا جرائم الاستعمار الإيطالي. ولم أكن وقتها أدرك أن باستطاعة ليبيا انتزاع بعض حقوقها المادية من إيطاليا ولو بعد عدة عقود.
لكن ذلك حدث بالاتفاقية المذكورة ولا شك أن المشروع عند إتمامه سيكون لبنة جديدة ومهمة في البنية الأساسية للدولة وشعبها. لكنه أيضاً سيخلق مشكلات عديدة للدول الاستعمارية السابقة وعلى رأسها بالطبع بريطانيا التي استعمرت ربع الكرة الأرضية، وبعدها فرنسا وهولندا. هولندا وحدها استعمرت وامتصت ثروات إندونيسيا مئات السنين إلى أن تركتها كنواة تمرة يابسة في صحراء الربع الخالي لأنها كانت كمن بنى مصفاة للحليب القادم من جاكرتا، الذي يصب في أمستردام بلا مقابل تقريباً. كذلك فعلت البرتغال وأسبانيا وبلجيكا. وتلك الأخيرة كانت ولا تزال تستغل ثروات الكونغو من الألماس إلى المانجو منذ الاستعمار خلال الهجمة على أفريقيا في نهاية القرن التاسع عشر حتى اليوم عن طريق الشركات الكبرى ووراءها الحكومة. بالمقابل تتعاون حكومة بروكسل مع حكام الكونغو وكبار القادة على إخفاء مسروقاتهم في بنوكها. وهي في الوقت نفسه تستعمل الأموال في الاستثمارات ولتمويل مشاريعها الوطنية في بلجيكا نفسها وتحتفظ بها للابتزاز عندما يلزم الأمر.
وكانت عدة دول أفريقية قد أعلنت عزمها على المطالبة بتعويضات غربية عن تجارة الرقيق التي اشتركت فيها أوروبا وأمريكا وبعض العصابات العربية التي كانت تعمل في القارة لجمع الضحايا وبيعهم للشركات البيضاء بالملايين كل عام.
واليوم وقد بدأت ليبيا بالتعاون مع إيطاليا مشوار المطالبة بتعويضات ولو زهيدة جداً عن فترة الاستعمار البغيضة ماذا عن المستعمرات السابقة الأخرى الممتدة من الصين إلى عدن ومنها إلى جبل طارق والبحر الكاريبي. وقد ذكرت عدن بالذات بدون الإشارة إلى ما كانت تسمى بالمحميات الشرقية - حضرموت - والغربية من أبين ولحج إلى يافع والعوالق ومن المهرة إلى سقطرة لأن عدن كانت رسمياً توصف بأنها مستعمرة التاج البريطاني مثلها مثل هونج كونج والهند وماليزيا أو بالأصح الملايو كما كانت تسمى قبل اندماجها الفاشل مع سنغافورة التي كانت بدورها مستعمرة تاج.
لكن بريطانيا كانت أيضاً تعامل المحميات والمهرة وسقطرة وكل حضرموت كما تعامل المستعمرات ولو باختلاف فني بسيط يكمن في الإبقاء على السلاطين والمشايخ تحت إشراف وأوامر الضباط السياسيين البريطانيين مقابل مرتبات زهيدة ومجموعة من البنادق هدية سنوية عندما يقومون بزيارة الوالي البريطاني في قصره بالتواهي.
لذلك فإن بإمكان الحكومة اليمنية الحالية أن تحذو حذو ليبيا ببدء مفاوضات مع بريطانيا للحصول على تعويضات مالية أو بشكل مشروعات حقيقية وليست مجرد وعود وهمية على ورق للتعويض عن مائة وثلاثين عاماً من الاستعمار والاستغلال.
وقد ترد بريطانيا أو أحد مواطنيها بأنها لم تستغل مستعمراتها اليمنية الجنوبية لأنها لم تكن تحتوي على ثروات نفطية أو زراعية أو معدنية. وهذا صحيح لأن لا عدن ومحمياتها كانت تزخر بآبار البترول أو حقول القطن والذرة والكاكاو والأرز كما في الشرق مثل الهند والصين التي أغرقتها بريطانيا بالمخدرات مقابل ثرواتها بعدما نفدت مدخرات بريطانيا من الذهب والفضة.
لكن بريطانيا استفادت من الجنوب اليمني في عدة مجالات منها ميناء عدن الزاهر جداً الذي كان ثالث أهم ميناء حر في العالم كما انتفعت من الأرض اليمنية في إقامة عدة قواعد كانت يوماً ما تشكل معاً أكبر قاعدة عسكرية في العالم خارج الجزر البريطانية ومنها استطاعت بريطانيا صد الغزو العراقي تحت قيادة عبدالكريم قاسم من ضم الكويت إلى العراق عام 1961 على سبيل المثال. وبذلك كانت عدن سداً مانعاً ضد أي تهديد خارجي للثروات النفطية في الخليج حتى عام 1967.
ومن جهة أخرى ولأن عدن كانت سوقاً حرة استطاعت بريطانيا أن تسوق بضائعها ومنتجات مستعمراتها الأخرى عن طريقها بالملايين سنوياً بأسعار تلك العقود على السياح الذين كانوا يمرون من عدن ويقضون في المعدل عشر ساعات يومياً في أسواقها الغنية التي تذهب مداخيلها إلى جيوب الشركات البريطانية المنتجة والمصدرة عن طريق عدن. كذلك انتفعت بريطانيا من إقامة أولاً مخازن الفحم لبيعها على السفن البخارية ثم بإقامة مصافي النفط منذ عام 1951 لبيعه على السفن بكميات خيالية وأرباح طائلة مقابل توظيف بعض العمال اليمنيين والكتبة من خريجي المدارس الابتدائية والثانوية أما الأرباح فكانت تحول إلى لندن عن طريق البنوك البريطانية في عدن أمثال بنك جريندليز والبريطاني للشرق الأوسط وشارترد بنك والهندي الذي كان أيضاً ملكاً لها وعدة شركات كبرى كانت شبه محتكرة تجارة عدن مثل لوك توماس وكوري براذرس والبينو للملاحة والبس وبول ريز الفرنسيتين.
والحكاية طويلة وقد يكون مشوار المفاوضات أطول لكن المهم أن تبدأ الحكومة اليمنية التي كانت منذ أعوام تطالب بالانضمام إلى رابطة الكومنولث، في المفاوضات على نيل تعويضات سخية أو ما يعادلها من مشروعات بناءة نافعة ولو بالاشتراك مع الشركات البريطانية إذا لزم الأمر.