عفيف شهيداً مدنيّاً ... خاطرة الدكتور سعيد الجريري
(1) رشاش حظيرة على طقم عسكري مستفِز، ينهمر رصاصه الحيّ صوب فتيةٍ لم ينالوا من الديمقراطية سوى الجهرِ بالرأي، والتعبير عن معاناةٍ أطبقت على كل بيتٍ!.. مشهدٌ ترويعيّ فظ ، كان بالإمكان أن يكون في غاية الروعة لو أنه جزء من عمل سينمائي يُشارَك به في مهرجان( كانْ ) السينمائي الدولي. لكنه ليس فيلماً. إنه جريمة مشهودة.
(2) سألني أحد الزملاء في خضَم البشر المحتشدين لتشييع جثمان شهيد المدنيّة الشاب عفيف علي محسن الوحيري عن سر هذا الاحتشاد المذهل، وعن خلفياته، وأبعاده، ورسائله، فأجبته وفي النفْس ضجيج كظيم، ونشيج كليم: أن استفزاز الناس في وجودهم، بالرصاص الحيّ، فاجعة جماعية، فلا غرابة حينئذٍ أن يتداخل الاجتماعي بالديني بالسياسي بالثقافي بالاقتصادي بالنفسي، فتكون الغضبة تاريخية بموازاة الاستهتار- بدم بارد- بالنفْس الإنسانية التي كرمها الله، وحرّم قتلها إلا بالحق.
(3) لم ترَ الديس خلال عقودٍ مضت، مشهداً كمشهد رشاش الحظيرة عند الحصن، ولا حشداً كحشد جنازة عفيف. غير أن بين المشهدين علاقة يجب أن تُقرأ بطريقة موضوعية، من خلال رمزية كلّ منهما، فرشاش الحظيرة الذي أحال ليلة الديس إلى مأتمٍ وطني أسود، هو الذي أحال جنازة عفيف إلى مهرجانٍ للشهادة والرفض. فالطقم، والرشاش، والضاغط على الزناد جميعاً مفردات في لغةٍ تجاوزها الزمن المدني، حتى باتت من اللغات الميتة أو المنقرضة، لذلك لم يستوعبها الناس، صغاراً وكباراً، فكان الموقف رائعاً، منضبطاً ، ملتزماً بلغة أخرى مدنية هي لغة القانون التي كثيراً ما يتم تغييبها.
(4) دم الشهيد ليس موضوعاً للمساومة من أي نوع، أو المناورة باللعب على عامل الوقت، والتسويف، هكذا يردد أولياء الدم وأهل الديس. إن دمه دم الديس كلها، دم المدنية التي تُقاوم نقيضَها، وهي مقاومة ليست بالمعنى السياسي المباشر. إنها مقاومة مستمدة من جذور حضارية وثقافية، تعبّر عن حضورها كلما تم استفزازها. ولذلك فلعل عفيفاً لا يكون آخر الشهداء المدنيين- إزاء الطقم والرشاش المستفز - فهناك استشهاد أخرى مدنية يحاول كبار السن تأجيلها، ولكن...! وهنا ينبغي لمن يهمه أمر هذا الوطن أن يعيد قراءة الكتاب من الصفحة الأولى، ومن أول سطر، وأن يقرأ ما بين السطور، وهو على وضوء.
(5) قُل الحقَّ ولو على نفسك، هكذا ينبغي أن يكون الموقف الناضج. لكن من يقرأ التاريخ خطأ- أو لعله لم يقرأه أصلاً- تراه يقف خارج الزمن. والزمن لا يرحم، لأن الاستهتار بدماء الناس استهتار بالقيم والشرائع. فليست الدم المُراق أراضيَ، أو سياراتٍ، أو امتيازاتٍ، أو ترقيات. إنه أحمر بالخط العريض.
(6) سلاماً عليك ياعفيف.
الأحد 09 أغسطس 2009, 5:15 am من طرف سر و لا تجزع