متابعات : بلا ريشرحل بعد أن أبدع رائعته الغنائية الشهيرة (حبايبي رحلوا).. الشاعرالغنائي عمر محمد بن بريكعن «الايام» رياض عوض باشراحيل:في الثاني من شهر يوليو 2006 رحل عنا علم من أعلام الشعر الغنائي الحضرمي واليمني, أبدع بتألق وأعطى بسخاء وسخر طاقاته الإبداعية لخدمة تراثه وفنه الغنائي، فأبدع خلال مسيرته الفنية أعمالا غنائية رائعة ظلت خالدة في قلوبنا متوهجة في مشاعرنا لاتمحوها الأيام، رغم أنه لم يأخذ حقه الإعلامي والفني كما ينبغي.. إنه الشاعر والملحن القدير عمر محمد بن بريك.
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]شاعرنا من مواليد الشحر، مدينة الشعر والفن في العام 1937, عاش حياته بسيطا متواضعا، وعانى خلال حياته ظروفا اجتماعية صعبة, إلا أن كبرياءه واعتزازه بكرامته جعله لايتحدث عن نفسه أو يشكو حاله، وكان في كل الأحوال يواجه متاعبه بنفس مطمئنة راضية، ورغبة عارمة في الإبداع الفني الذي كان تعويضا وترويحا له في مواجهة صروف الحياة وقساوة الأيام. إنه واحد ممن يمتلكون القوة والإرادة والفعل لكل أدوات انطلاقتهم في الحياة وفي عالم الفن، والارتقاء بها إلى حيث يشكلون بأنفسهم الواحة التي لاتضيق بهم، بل تتسع وتكبر.
ومنذ إشراقة فجر صباه الباكر كان شاعرنا مولعا بالطرب ومحبا للشعر ومتذوقا للدان والتراث الغنائي الحضرمي من خلال ما يقرأه من قصائد جميلة وما يستمع إليه من مساجلات شعرية وأغنيات لفحول شعراء الدان في الوادي، ومنهم حداد بن حسن الكاف ومستور حمادي وغيرهما, كما تأثر شاعرنا أيضا بالدان الساحلي ورقصاته الشعبية التي تمارس في محيط مدينته كالهبيش والغياضي والعدة والغية، ولكن جل تأثره وتكوينه الشعري والفني كان بفضل مدرسة المحضار التي عاش شاعرنا بجوارها في مدينة الشحر وتأثر بها أيما تأثر، فاستطاع بذلك أن يثري وجدانه ويعمر مواهبه بمخزون فني كبير من تراثه الحي، وانعكس ذلك المخزون فيما بعد في فنه الغنائي الذي فتن به الكثير من المطربين وكبار الفنانين في بلادنا وفي الخليج العربي, فقد غنى له الفنان أبوبكر سالم بلفقيه والفنان المرحوم طلال مداح أغنية (حبايبي رحلوا), وترنم د.عبدالرب إدريس في الستينات بأغنية (من عيونك ياحبيبي ياسلام) وسجلها لتلفزيون الكويت، وفي السبعينات صدح بأغنية (أسمر ياجميل)، كما غنى العديد من أغنياته الفنان سعيد عبدالمعين الذي كان أول من غنى لشاعرنا وكذلك الفنان محفوظ بن بريك والمرحوم بدوي زبير وكرامة مرسال ومفتاح كندارة وعلي العطاس وعلي سالم بن بريك وعارف فرج سالم وعمر الدقيل وغيرهم, بيد أن الفنان عبدالرحمن الحداد يعد أكثر من غنى لشاعرنا وسجل بعض أغنياته لإذاعة عدن ومنها (هجرني حبيبي) وفيها قال شاعرنا:
من قد سلبني وشل عقلي من موضعه واليوم يهجر وفرقه مستحيل
لي باع ودي ومعروفي ماينفعه لما تنكر لودي والجميل
وقت المحبة سلام الله مابقطعه مازلت أذكر سمرنا والمقيل.
لقد اتسمت تجربة شاعرنا (ابن بريك) الشعرية في شعره الغنائي بخصوصية التعبير عن أحاسيسه وعواطفه التي انطلقت من تجارب حياته الخاصة وتصوير مشاعر الحب والشكوى والرحيل والذكريات, واللقاء والفراق والسعادة والشقاء وغيرها, كما برزت تجربته بواقعيتها إلى حد ما في ترجمة ظروف حياته والأحوال الخاصة التي أحاطت به في المحيط العائلي وفي بيئته كما يعرفها أهله وأقرباؤه وأبناء مدينته, فتميزت بالحكمة والصدق في الإحساس والتعبير, وجسدت أشعاره الغنائية تجاربه ومشاعره ومواقف حياته تجسيدا حيا.. وتعد رائعته الغنائية (حبايبي رحلوا وأنا من بعدهم قلبي رحل) التي صاغها كلمات ولحنا من عيون الشعر الغنائي الحضرمي واليمني الخالد, وفيها يشكو شاعرنا من آلام الفراق ولوعة رحيل الأحباب وبعدهم عنه, جسدت شكواه ولوعته الكلمة واللحن والموسيقى في لوحة غنائية رائعة، فأنشد في حزن وأسى:
حبايبي رحلوا ** وأنا من بعدهم قلبي رحل
وحيث ماحلّوا ** نصب خيمة على رملة وحل
ومحل ما نقلوا نقل ** مسكين هذا القلب مسكين
شلّيت عقلي من سنين وشكيت من فرقتك والبين
كلمات في غاية الوفاء والصدق وأبيات في منتهى الشفافية والرقة تنم عن محب عاشق أصيل, فالأحباب قد عاشوا في شرايينه وامتزجوا بقلبه، وأضحوا في شعر (ابن بريك) المعادل الموضوعي لقلب الشاعر, فإن رحل أحبابه فإن قلب الشاعر من بعدهم يرحل, وحيث ما حلّوا نصب فؤاد هذا الفنان الرقيق والمتيم المشتاق خيمة على رملة وحل, وإذا ما نقلوا إلى أي مكان أو محل آخر معهم نقل!!.. وبعد ذلك يعيش الشاعر صراعا نفسيا مريرا ومعارك مشتعلة ضارية بين فكره وعقله من جهة وعواطفه وقلبه من جهة أخرى, فليت شعري أي طرف من طرفي المعادلة سينجح, وأية كفة يا ترى سترجح؟! هل ستفوز كفة العقل أم كفة القلب؟!.
فعلت ما فعلوا ** ولو عاكست أنا قلبي فعل
بالجود ما بخلوا ** ولا ودي لهم يوما بخل
أضرب بهم أعلى مثل ** عالناس وجميع المحبين
أجل مسكين أمر هذا الشاعر العاشق الذي يكبح أوامر عقله ورغباته ولايعصي لقلبه أمرا, فهو يفعل كل ما يفعله الأحباب، حتى وإن عاكس عقله وأبى ذلك الفعل فإنه لايعصي لقلبه أمرا، وشاعرنا هنا يعيدنا لروايات العشاق العرب الذين يضعون قلوبهم على أكفهم ولايعصون لها أمرا من أوامر الحب والعشق، ولازلنا نتذكر قول المحضار (يرحمه الله) «أنا باتبع قلبي وبس ما علي في الناس..»، ولايزال خيط المعادل الموضوعي بين الأحباب وقلب الشاعر يتواصل، فالعطاء والسخاء والجود من شيم الأحبة لذلك «بالجود ما بخلوا ولا ودي لهم يوما بخل»، والشاعر يضرب بهم أعلى مثل في الناس وجميع المحبين. ويواصل شاعرنا بث مشاعر الوجد الصادق وأحاسيسه الحرى فيلجأ الى التذلل للمحبوب والاستعطاف والتبرير له فيقول:
أحباب إن زلوا ** على الآدمي دار الزلل
مادام ما ملوا ** ولا عرفوا طريقة للملل
ما بان لي منهم خلل ** وبقوا على عهدي مقيمين
ولو أردنا الاستمرار ومواصلة قراءة هذا النص الغنائي وحده لما كفتنا صفحات, وإننا نكتفي بالقليل للإشارة إلى إبداع هذا الشاعر القدير، لعله يغني عن الكثير.
لقد أبدع شاعرنا عمر محمد بن بريك الكثير من القصائد والأغنيات التي تطرق آذاننا صباح مساء وتسكن قلوبنا منذ زمن، وصاغ لها أجمل الألحان العذبة، فترنم بها المطربون، وشدت بها الأصوات الشجية في وطنه وخارج وطنه.
رحم الله شاعرنا عمر محمد بن بريك الذي ترك لنا أجمل الأشعار والأعمال الغنائية الرائعة, ولايسعنا في ذكرى رحيله الثانية إلا أن نحمل على قبره ورود التقدير والعرفان والوفاء جزاء ما قدم لتراثه الوطني من فن وإبداع، وهو جدير بالمحبة والتكريم والتبجيل والعرفان على مدار الزمان.