كتاب الشهداء السبعة للأستاذ محمد عبدالقادر بامطرف
كتاب الشهداء السبعة
"الحقيقة والخيال"
د. عبدالله سعيد الجعيدي
هذا المقال ليس دفاعاً عن المؤرخ محمد عبد القادر بامطرف من تهم طرحت ضده في حياته همسا وجهرا بعد غيابه , وكان الأجدر بها أن تظهر سافرة في حياة الرجل إذا كان غرض أصحابها الوحيد هو الحقيقة.
إن بامطرف المفكر أكبر من أن يدافع عنه أحد . صحيح أن التاريخ لا يؤمن بسقوط الدعاوى بتقادم الزمان بل إن الزمن لعبته ، ويراهن في أغلب الأحيان عليه لكشف الحقائق .
والتساؤل المطروح هو: ما التهمة ؟ وأين الحقيقة ؟
بخصوص موضوع المقال, فإن التهمة تكمن في شكِّ البعض في صحة قصة كتاب الشهداء السبعة, وعدِّها من نسج خيال بامطرف !! ويعزز أصحاب هذه التهمة رأيهم بأن كتاب بامطرف اعتمد في قصته على مخطوطتين في مجلد واحد يدعي بامطرف أنهما فقدتا بعد كتابة مسودة الكتاب ( الشهداء السبعة ) أما المخطوطتان فهما حسب رواية بامطرف : " بهجة السمر في أخبار بندر سعاد المشتهر" لمؤلفه المؤرخ الملاح الربان سام بن عوض باسباع . والمخطوط الآخر " زاد الأسفار في أخبار الشحر وعدن ومالابار " لمؤلفه الأديب الشاعر الشعبي سعيد بن علي بن سعد بامعيبد . ويقول أصحاب هذا الرأي انه لا يعقل أن تكون نسخة واحدة لهاتين المخطوطتين إن وجدت كما أن بعض المعلومات التي يزعم انه أخذها من المخطوطتين لا توجد في أي مصدر آخر بحيث تتم المقارنة وكشف النصوص.
ويذهب الشك بالبعض مذهباً بعيدا عندما يقال إن بامطرف ربما اخذ شيئاً من هاتين المخطوطتين ثم حوّر ما شاء له أن يحور وتعمد إخفاء المخطوطتين لتموت الحقيقة ؟ . وهكذا تتراوح الشك عند أصحاب هذا المنحى حيناً ويشتد حينا ليصل إلى القول بالتزوير . قال الأستاذ عبد الله محمد الحبشي في مقدمة الكتاب الذي قدمه ( للطبع) الموسوم: تاريخ الشحر المسمى العقد الثمين الفاخر في تاريخ القرن العاشر تأليف عبد الله بن محمد باسنجلة أو (باسخلة)" ما يأتي : " وقد ذكر شيخنا الأستاذ محمد عبد القادر بامطرف كتابين في تاريخ الشحر هما : زاد الأسفار....وبهجة السمر .....وفي نفسي شيء من حقيقة هذين الكتابين ووجودهما "
لاشك أن ما يطرح جد خطير وخطير جدا . صحيح أن الشك رائد حكمة الباحث والمؤرخ وصفة لازمة لصفاته وليست منهجا صارما لاستنتاجاته . وبصفتي متابعا سأحاول أن أزحزح نفسي عن الافتراضات المسبقة الإيجابية التي احملها تجاه مؤلف بامطرف وشخصيته وسأحصر هدفي في معرفة الحقيقة أو ما اقترب منها .
ويقول من يهمسون إن بامطرف كتب هذا الكتاب استرضاء لجهات معينة في جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية التي عدّته في أول الأمر رجلاً من رجال العهد القديم بل لقد سُُجِن وأوذي في زخم الثورة ، ولهذا وبحسب أصحاب هذا الرأي ( الاتهام) فإن بامطرف أراد أن يبعد عن نفسه التهمة الجاهزة في عصر لا يعرف المناطق الرمادية ويثبت انه مع خط الثورة والمقاومة والتحرير عسى عين الثوار تعده من أصدقائها ومناصريها .
ومن هذا الفريق من يعطي بعدا آخر للقصة ويقول إن بامطرف مؤرخ وأديب فهو يحمل في داخله خيالات الأديب وعشق خاص لمدينته الشحر ، الأمر الذي جعله يبرع في نسج قصة الشهداء السبعة بحيث مزج بين الحقيقة والخيال ليكون له مجد السبق لكتابة هذه الحادثة التي تناثرت إخبارها في قرون الزمن ولم يبق منها إلا ذكريات لمن وقف وحن.
مرة أخرى التهمة جد خطيرة.إنها اكبر من مجرد قصة بين حقيقة وخيال .إنها قضية وجود بامطرف الكاتب المفكر من عدمه , فإذا كان في الحياة شيء سهل فلا أسهل من التهم بلا دليل, وإذا كان هناك أمر صعب فما أصعب من لجم المتقولين .
إن الحقيقة والخيال في الدراسات التاريخية ليسا كيانين منفصلين متعاديين فالحقيقة تحتاج إلى قليل من الخيال حتى تكتمل الصورة والخيال إذا ارتكز على حقائق يخصب في المكان المجدب . والكتابة التاريخية لا تعادي الخيال كل الخيال بل تتوق إلى خيال المؤرخ المستند إلى قاعدة معرفية أصيلة ليسترد من الزمن ما شاء الله له أن يسترد من مشهد الحدث.
ولاشك أن بامطرف ينزع إلى أسلوب الخيال في معظم مؤلفاته التاريخية ولكن في خياله العلمي الرصين يدور مع أبطال التاريخ لتوضيح الحدث دون أن يمسه بسوء.
وعودة إلى المربع الأول : أين الحقيقة؟؟
هل كنت يا بامطرف تحمي نفسك على حساب التاريخ ؟ هل كنت تبحث عن مجد شخصي على حساب الحقيقة ؟ هل....؟ ولماذا؟.....
المعني بالإجابة غير موجود وفي ذمة الله !!ولكن التساؤلات ارتدت إلى تلميذه وأستاذنا الشيخ عبد الرحمن الملاحي...... وبعد أن عبر عن ألمه وغضبه من مثل هذه التقولات قال لي إنه يعرف بامطرف عاشقا للحقيقة متابعا للتفاصيل لا يستعجل إصدار الأحكام ونفى نفيا قاطعا هذه التهم وأكد أن أسرتَي صاحبَي المخطوطتين معروفتان في الشحر ومن أفرادهما من هم أهل علم وخبرة ، وهو- أي بامطرف - لا يبحث عن مجد شخصي من هذا الكتاب ولن يضيف له شيئاً وهو السياسي اللامع والكاتب الشهير والمؤرخ المعروف ويضيف الأستاذ الملاحي أن رواية اختفاء المخطوطتين من بيته صحيحة وفي مقدمة الكتاب أشار إليها بامطرف وذكر اسم الشيخ عمر بن عبود الشحري الذي أعطاه المخطوطتين وهو شخص معروف ظناً منه أن مكتبته هي المكان الوحيد الآمن ، ولكن جرت الرياح بما لم تشتهِ ( السفن) ، وقد فقد بامطرف لأسباب معروفة وغير معروفة بعض من مؤلفاته المخطوطة في زمن ثوري مارس هذه الفعل في بيوتات علمية متعددة وهو أمر مشهور على الساحة الثقافية في بداية الحكم الجمهوري ومنطق الأشياء يؤكد رواية الضياع .
ومن جانب آخر يؤكد الباحث عبد الله صالح حداد وآخرون أن المسودات الأولية لكتاب شهداء القصر كتبت قبل العهد الثوري,وأن روح المؤرخ الذي يحمله بامطرف كان دافعه الوحيد لتتبع قصة الشهداء السبعة مثله مثل مؤلفاته وكتاباته التاريخية وهذا أمر يدفع عن بامطرف تهمة استرضاء الدولة.
ويضيف من يضيف أن الأستاذ الحبشي سبق وأن سخر وقلل من كتاب الجامع لبامطرف بكلمات لا تليق بأهل القلم ورد بامطرف في مجلة آفاق الصادرة عن اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين/ حضرموت في قصة معروفة ولأنه – أي الحبشي – لم يعزز رأيه أو ما في صدره بدليل علمي من كتاب الشهداء السبعة لبامطرف فإن مشكلة الأستاذ الحبشي التي في صدره مع بامطرف الشخص وليس مع مؤلف بامطرف.
لقد دفعنا هذا الموضوع إلى إعادة قراءة كتاب الشهداء السبعة وكذا المؤلفات التي تناولت أحداث القرن العاشر وهو عصر تلك القصة وأولئك الشهداء الأبطال ، ولقد كانت قراءة شاقة متأنية وقد اتضح لنا وبشكل عام الآتي :
إن الكتاب في طبعته الثانية يتكون من 139 صفحة من القطع المتوسط والصفحات الأساسية التي تطرق فيها إلى قصة المقاومة لا تتجاوز عشرين صفحة ( من صفحة 83 -102) والكتاب في جوهره تاريخ لمدينة الشحر في القرن العاشر الهجري السادس عشر الميلادي الذي تميز بالانقلاب الاقتصادي والسياسي الذي أحدثته حركة الكشوف الجغرافية والوجود البرتغالي في السواحل العربية الجنوبية وتأثير ذلك على السلطنة الكثيرية الأولى في عهد سلطانها (بدر أبو طويرق) ثم تبعات ذلك ونتائجه على مدينة الشحر ميناء حضرموت الأول .
وقد غطت هذه الأحداث عدة مؤلفات لم يحددها في فهرسة مستقلة فهو كعادته لا يميل إلى توثيق معلوماته بتفاصيلها في الهوامش وفق المنهج التاريخي الحديث ولكنه ضمنها في الحواشي والهوامش التي وصلت إلى 140 ذكر فيها المصادر والمراجع التي عاد إليها, كما زخرت الحواشي بتفاصيل مفيدة لكثير من المعاني والمصطلحات والمعلومات التاريخية التي أضفت قيمة أخرى على الكتاب على ما فيه .
صحيح أن المخطوطتين موضوع الجدل مثلتا حجر الزاوية في رواية الكتاب ولكن القصة ارتبطت بمعلومات وردت في مصادر أخرى منشورة وبعضها يستند إلى مصادر أجنبية (برتغالية وانجليزية) وكان من الطبيعي أن يعتمد بامطرف على مصادر عاصرت الحدث مثل مخطوطتي باسباع (توفي 950هـ)أو بامعيبد اللتين اعتمدتا على مصادر مهمة معروفة. وما تضمنته تفاصيل هاتين المخطوطتين قربت الرواية إلى روح العصر ولكنها لم تكن معزولة كليا عن المصادر الأخرى التي تعود إلى القرن العاشر الهجري .
إن منطق الأمور يجعلنا نؤكد رواية بامطرف فهي حقيقة ازدادت بهاءً بخيال أدبي محمود, والرواية المغايرة بعيدة عن الحقيقة واعتمدت على أوهام وخيال مهدود . إن السر لا يكمن في كبد النصوص بل في بطن اللصوص, وللحديث بقية.