هذا البحث قراءة في شعر المحضار .. النشيد والفن للدكتور / عبد الله حسين البار علي عمر الصيعري لازمة: في إصدار ثرٍّ وبديع حمل الرقم ( 8 ) لسنة 2011م, صدر عن مكتب وزارة الثقافة بالمكلا محافظة حضرموت كتاب قيم جدير بالقراءة والتأمل عُنون بـ ( شعر المحضار.. النشيد والفن) وضعه الناقد القدير والأديب الأريب أستاذ الأدب الجاهلي المشارك / جامعة صنعاء – كلية الآداب- الدكتور عبد الله حسين البار, في 186 صفحة من القطع الوسط .
وتحت إشراف المؤلف على تشكيل وإخراج الغلاف الأمامي والخلفي , أبدع نجله ( حسين) في تصميمهما في لوحتين فنيتين معبرتين.ففي الغلاف الأمامي, ارتسمت صورة مكبرة لوجه جانبي للشاعر المحضار تجلت دلالتها الجمالية الإيحائية في إظهار طرف جزئي من لسان الشاعر وهو عضو النطق ووسيلة " الباث" أي المرسل ويعني الطرف الأول في جهاز التخاطب عند "اللسانيين", وفي الأسفل نُضد مقطع للمحضار يقول : ( سل عن نشيدي وفني كل وادي) مما يوحي للناظر أن الصورة ناطقة بهذا المقطع في ( إِنيَّة) تعني الكمال والوثاقة.
وفي الغلاف الخلفي ظهرت صورة نصفية للمؤلف وما تبقى من جسده مغمورا في الماء وكأنها توحي للناظر أن البار خرج على التو من رحلة غوص في بحر إبداع شاعرنا المحضار ( حيث اللول يوجد والصدف) وقد صاحب هذا وذاك طباعة فنية دقيقة نفذتها " مطبعة وحدين الحديثة للأوفست) بالمكلا.
قصدنا بالإشارة إلى جماليات تصميم الغلاف, حرص الدكتور عبد الله حسين البار على إيلاء النتاج الفكري والإبداعي المقرئ اهتمامات خاصة في مقدمتهما الغلاف الذي هو بمثابة الشكل الدال على قيمة المضمون وهذا ما يندرج ضمن اهتمامات الأسلوبية الحديثة بالجماليات.مدخل
(أنصح ألا تبتعد لغة الشعر كثيرا عن اللغة اليومية التي يستعملها الناس في حياتهم اليومية )ت.س.أليوتالشعر العامي أو الشعبي – كما يحلو للبعض إطلاق هذه التسمية عليه- هو صوت أبناء الشعب بلغتهم العامية يجسد نظرتهم للحياة وطموحاتهم ومعاناتهم وأحلامهم و " كر الليالي واختلاف الأعصر" بحسب تعبير "منبه بن سعد الملقّبْ بالأعصر", فرحا وحزنا, طربا وضجرا, أملا ويأسا, وغير ذلك من هنالك.ولأن الشعر العامي معبرا عن أحوال الناس, وواقع حياتهم اليومية , وكاشفا لملابساتها حظي بطابع الحيوية والقبول بين الشعوب والأمم, وبما أن مزيته– عادة- أنه يقوم على فن " الإيحاء" الذي يخفف عن كاهلنا أساليب الزخرفة وحيل البلاغة " المكثفة", واستعاض عنها بـ " التعبير الكنائي", سلم العديد من النقاد على رأسهم " مارون عبود" راية الإبداع لهذا الفن وقال مدللا على ذلك: ( لأنه منبثق من قلب الحياة والواقع, يستمد خياله الحلو من محيطنا الذي ألفناه, والمرء على ما يألف) [ الشعر العامي – ص13].
وعن قدرات لغة الشعر العامي وصوره ومخيلة الشاعر العامي والفطرية في التعبير عن أحوال الناس ومشاعرهم التي هي معظمها حال الشاعر المعيش, يقول " مارون عبود: ( إن الشعور بالحياة وإدراكها الكامل لا يكونان تامين إذا عبرت عنهما بغير اللغة الدائرة على الألسنة, وبهذا يثير شاعرنا العامي النفوس إثارة يعجز عنها أكبر شعرائنا الرسميين) [ المصدر السابق –ص63]. وتأكيدا على ما ذهب إليه الناقد والشاعر الأديب "مارون عبود" يورد في كتابه ( على المحك) مقولة للشاعر والناقد العالمي " ت. س. أليوت" ينصح فيها : ( ألا تبتعد لغة الشعر كثيرا عن اللغة اليومية التي يستعملها الناس في حياتهم العادية).
تقديم:انتظم الكتاب في: الإهداء الرسمي،ومقدمة وخاتمة وجيزتين ،وخمسة فصول هي:
( 1) من هواجس شعر المحضار
(2)من تقنيات شعر المحضار
(3)تجارب عروضية في شعره
(4)أثر أشكال التأليف الموسيقي على بناء شعره
(5)ظواهر في لغة الشعرالمحضاري. وقد احتوى كل فصل من هذه الفصول الخمسة على أبواب انتظمت على النحو التالي:الفصل الأول[أ-هاجس الحب. ب-حب الوطن والحنين إليه .ج – التجربة الروحية في شعر المحضار. د- شعر السياسة وسياسة الشعر . ه – ذم الدنيا وشكوى من الدهر]
الفصل الثاني:[أ-إرسال المثل. ب-لزوم مالا يلزم. ج- الشلةّ. د-التجنيس ] الفصل الثالث:[ الوزن,وبدوره تفرع إلى:المثنى,والمثلوث,والمربوع,والمخموس,والمسدوس , والمسبوع , والمثمون , والمتسوع , والمعشور ] الفصل الرابع: [أ –شكل المسرحة. ب- الدور. ج- المبيت. د- الموشح ]الفصل الخامس: [1- اللبس. 2- الأس.3-المنزع البديعي. 4-هجرة النص المحضاري]
قبل الإبحار النمطي في كتاب الدكتور البار,وأعني بالنمطي اختيار مواقع للتوقف عند بعض الفصول والأبواب وتفرعاتها كأمثلة دالة على مجمل تناولات الناقد لديوان المحضار، وتجاوز ما لم استطع الإلمام به والقدرة على تناوله ،لأتركه لغيري من القراء والمتخصصين كل في مجاله ،وعلى سبيل المثال:الفصل الرابع لجهلي بعلم الموسيقى،وما تفرع من الباب الثالث ابتداء بالمثنى وانتهاء بالمعشور,لاعتقادي بأن الشعراء الشعبيين أنفسهم لا يولون لهذه الأوزان اهتماما,إن لم نقل أن معظمهم يجهل ما تعنيه،إلا أننا سنقف قليلا أمام بعض من هذه التفرعات.
ولكي نكون أكثر وضوحا معكم نقول: أن تركيزنا,في هذه القراءة، ينصب على طرائق منهجية الناقد البار وأسلوبه في اجتراح مأثرة نقدية هي الأولى من نوعها في حضرموت على وجه الخصوص تمثلت في إصدار كتاب نقدي على أسس منهجية حديثة لديوان شاعر عامي بحجم المحضار.
قبل الإبحار في
عرض كتاب الدكتور البار عن شعر المحضار،تقتضينا الإشارة إلى مسألتين ملحتين
هما:أولا-ما هو سر جاذبية شعر المحضار،بحيث ابتدأ به الناقد البار كتابه النقدي المنهجي في الشعر العامي،بينما هناك عدد من الشعراء العاميين القدامى؟!
وثانيا: اللغة الأسلوبية التي استخدمها الناقد في تناولته لديوان المحضار!
ومن هنا ارتأينا أن نضمن تلك المسألتين تقديمنا لهذه القراءة على النحو التالي: سر جاذبية
شعر المحضار في تحليلي ، إن صح ذلك ، أن عامل الجذب المؤثر الذي جذب الناقد د. البار إلى شعر المحضار ، فأفرد له كتاباً بهذا الحجم عنونه بـ (( النشيد و الفن )) لم ينحصر في غزارة إنتاجه الشعري – كما ألمح إليه -، أو شهرته في الوسط المحلي و الإقليمي و العربي لكثرة من غنى قصائده وشدا بألحانه ، بل تعداه إلى عامل جذب نفسي يندرج تحت مفهوم ( النقد النفساني ) أو ( التحليل النفساني للنصوص الأدبية ) باعتبار أن للخلق الفني قيمة علاجية طالما أن العبقرية تقوم أساساً على معادلة التوازن النفسي ، ولما كان الخلق الفني أو الأدبي صدى لعالم اللاوعي ، فإن من محركاته تحرير المقيد من حاجات الإنسان بإخراجه من حيز اللاوعي إلى حيز الوعي .[ انظر : الأسلوبية و الأسلوب – د . عبد السلام المسدّي – ط (3) ص 200 ]
وجوهر عامل الجذب هذا هو سجية سامية تماثلت في نفس الناقد و الشاعر المحضار معاً ،بل هي سجية تماثلت بين الشاعر ونفسية محبيه ومتذوقين شعره وأغانيه. قال بعض الفلاسفة عنها : (( أن للنفس كلمات روحانية من جنس ذاتها )) كما يتجلى جوهر عامل ذلك الجذب في ما وصفه (( ابن طباطبا )) بالقول : فإذا ورد عليك الشعر اللطيف المعنى ، الحلو اللفظ ، التام البيان ، والمعتدل الوزن مازج الروح و لائم الفهم ، وكان أنفذ من نفث السحر ، و أخفى دبيباً من الرقــــي ، وأشد إطراباً من الغناء [ أنظر : عيار الشعر – ج (1) – ص 23 ] .
إن هذا وذاك ، إلى جانب ما ألمح إليه الناقد البار من توافر دوائر الجودة ، و الإحكام الفني ، و الدلالة ـ ونواتج التجربة عند المحضار، شكل حال استثنائية جاذبة بينه وبين الشاعر حسين بن أبي بكر المحضار وصفها بالقول في كتابه هذا : ( وهذه حال لا يرقي إليها إلا المصطفون المميزون من الشعراء ، فهي مرتبة علياء في عالم الإبداع )) [ الكتاب – ص 5 ] ، ثم يؤكد القيمة المعيارية لشعر المحضار بالقول :
(( .. ففيه من مكونات الشعر الصافي ما يرقى به وبصانعه إلى قمة الأولمب حيث يتساقى الشعراء المبدعون من خمر الإبداع كما يشتهون )) [ المرجع نفسه – ص 5 ]
أما استدلالي ، وهذا استنتاج أعتز به ، فإن الأدبية في الشعر بمختلف فنونه لا يوفق في سبر أغوارها – عادة إلا متذوقا مرهف الحس متقد الروح خصب الخيال قبل أن يكون ناقداً ، فاحصاً ، لبيباً ، مجرباً ، عليماً بمناهج النقد و مدارسه وتفرعاتها ، وهذا ما إنماز به الشاعر الناقد البار من متلازمة الممارسة الفنية و الإبداعية شعراً ونقداً و التي نسبياً ما يتفرد بها إلا الملهمين من النقاد مهما اختلفت عندهم لغة الشعر المنقود من فصيح ، أوعامي ، أو حكمي .
ومن أبرز و أشهر هولاً الشعراء النقاد الأقدمين الشاعر الناقد خلف الأحمر ، وفيه قال صاحب (( العمدة )) : ( وأهل صناعة الشعر أبصر به من العلماء بآلته من نحو وغريب ومثل وخبر وما أشبه ذلك [ ... ] ، وقد كان أبو عمرو بن العلاء وأصحابه لا يجرون مع خلف الأحمر في حلبة هذه الصناعة ،أعنى النقد ، ولا يشقون له غبارا ، لنفاذه فيها وحدقه بها ، و إجادته لها ) [ أنظر : كتاب العمدة – أبو علي ا لقيرواني – ط (5) – جزء (1) – ص 117 ]
ويخلص الناقد،في ضوء معطيات عوامل الجذب الكلية إلى مسلمة تقول بعبقرية المحضار وتضعه في مصاف من سبقه من النوابغ والعباقرة المتميزين،ويعلل البار تقويمه المعياري هذا بالقول :( أنا هنا لا أهب المحضار هذه الصفات تفضلا, ولكنما شاعريته الفذة كانت سببا في وسمه بها وبغيرها من الصفات التي يدركها أهل العلم من الأدباء وشداة الأدب) [ الكتاب – ص9]
أولم يقل لنا " مارون عبود" والذي يعتبره البار علما حبّب الشعر العامي إلى نفس الناقد : ( إن مخيلة الشاعر المبدع " راديو" يلتقط حديث عوامل الأثير, وقريحته " راديوم" يشعُّ نورا خالدا, فعبثا يحاول قرع باب الفن إن لم يكن – في عونه- قلب متقد وعين ثاقبة) [ أنظر : "على المحك" – ص34]وفي موضع آخر من ذات كتابه يقول " عبود" :( ما الشعر إلا حلم يقظة, فالذي ليس له عين ترى, وقلب يحس, وأذن تسترق,وعقل يحلم, فهيهات أن يدخل مملكة الشعر ) [ المصدر السابق ص 12].
كما يلخص البار اتكاءه على هذه المسلمة بالقول: ( ولعل عظمة الإبداع الفني تكمن في كونه سؤالا واحدا يضعه عصر ما في فترة محدودة من الزمان ،ولكن الإجابة عليه تتعدد حتى تشمل عصورا بحالها تتغير فيها الإجابات ولكن السؤال يظل على حاله مؤتلقا.) [ الكتاب – ص 8]
لغة البار الأسلوبية في كتابه هذا اعتمد البار في كتابه عن شعر المحضار أسلوب لغة بلاغية رزينة جزلة التعبير, كعادته في أعماله النقدية السابقة إلا أن تلك معظمها أعمالا نقدية لشعراء الفصحى مثل كتابه القيمِّ (شعر أمريء القيس ..دراسة أسلوبية ) و ( الصورة الفنية في القصيدة الجاهلية- دالية النابغة أنموذجا) وكتاب(ثنائية الأنا والآخر في نونية المثقِّب العبدي) وكتاب( في أسلوبية النص.. قراءة في قصيدة هوامش يمانية على تغريبة إبن زريق البغدادي للشاعر عبدالعزيزالمقالح) ودراسته النصية " نموذج قصائد البردوني" وكتابه " شعر الغناء في حضرموت" وما هنالك من ذلك، وما ضمنه أعماله عن والده الراحل الشاعر الكبير " حسين البار" وبعض مقدماته لدواوين شعرية حديثة كديوان ( أحمد العواضي ) وديوان – قيد الطبع- لـ " علي الصيعري" وكل ذلك على سبيل المثال لا الحصر. وقد تنبه لهذا التماهي اللغوي في أسلوب د . البار التي يسبك بها متنه النقدي، الدكتور حاتم الصكر فقال عنه: " فهو ذو خاصية لافتة يصر على استخدام أسلوب رصين جزل,حواري وخطابي متزن – أحيانا- بأكثر مما يتطلبه النص الحديث المحلل أو المنقود....." إلا أنه يستدرك فيقول:" وتلك الملاحظات لا تنتقص من عمل البار ودأبه فهي ترصد أسلوب ناقد أسلوبي في نقل الجهد الأكاديمي إلى آفاق تعبيرية واسعة توازي عمل النص) [ أنظر: في تجربة النقد الأدبي المعاصر في اليمن – موقع / د. حاتم الصكر]
ومع ذلك فإن إضفاء الناقد البار خاصية تشويق تفرد بها في اعتماده لغة الحوار من حين لآخر في تناولته لشعر المحضار, شكل عامل جذب للمتلقي والمتابع لمتتاليات نصه النقدي. ويعنينا هنا نوعان من الحوار الأسلوبي هما " الديالوج" و " المنولوج" وقد سقناهما إسقاطا على صفة هذين النوعين اللذين عنيناهما بـ " الحوار الخارجي" و " الحوار الداخلي".
فأولهما على شاكلة أسئلة موجهة لقارئ متنه النقدي يضعها من جانب واحد ويجيب عليها بنفسه, وهاكم أمثلة على ذلك :" وكذلك هو حال المحضار [...]
أفلا يقاس في هذا بمن سبقه من النوابغ والعباقرة المتميزين؟" و ( فما تلك " الهواجس" التي تملكت وجدان المحضار وغلبت على شعره؟) و ( انه – أي المحضار- يتحدث عن الحبيب المطلق , لا عن " حبيب" بعينه يختصه من بين الناس بمودته [...] ألم يقل المحضار:
أنا من اجل واحد
تجنبت العرب وبقيت وحدي
وحبيت التباعد
ولا فكرت قط وش عاد بعدي
عطيته قسم زايد
وغيره يقبل الزايد إذا زاد؟
بلى قال ذلك. أوليس هو القائل:
باشل حبك معي بلقيه زادي
ومرافقي في السفر[...]؟
بلى هو القائل, ومن الذي قال:
سر حبي فيك غامض
سر حبي ما انكشف [...] أليس هو المحضار ؟)
ومثل
( ما الذي في أغنية المحضار من الخصائص؟ [...] وما منبع هذه الخصوصية؟ أهي الألحان؟ أم هل هو التشكيل الشعري؟ أم هي الرؤية؟ أم هو أمر مزيج من كل هذه الأشياء؟)
أما الحوار الداخلي وهو على شكل تساؤلات يحاور فيه الناقد نفسه ويجيب عليها ومن أمثلة ذلك : ( هل يعني ذلك انه لم يعشق ولم تكن له تجارب خاصة [...]؟ = كلا. فلست اعني ذلك لكنني اعني أن له من القدرة على صياغة الشعر وصنعته...)وكذلك : ( صور متعددة لهاجس واحد, فماذا في
شعر المحضار منه؟وماذا نزل بالمحضار من مصائب جعلته يشكو الدهر, ويذم الدنيا؟) وكذلك : ( أوليس هذا من الشعر السياسي الذي قيل في حدث بعينه؟ أوليس هذا الشعر خالدا حيا في النفوس؟ أوليس هو متجددا بتجدد الحياة من حولنا؟ أو لا نزال نشكو من أولئك " الصاغة"؟ أو لا يزال " حسان" ( ملقي ذعر في الأرض ؟ ) وما إلى هنالك من أسئلة وتساؤلات وحوار مع القارئ ومع نفس الناقد تجعل من القارئ والمتتبع للمتن النقدي للبار منجذبا ومتفاعلا معه. وملاحظة أخرى في لغة البار الأسلوبية سيما في متنه النقدي هذا والمتناول شعر عامي قريبا إلى فهم المتلقي وذو لغة بسيطة, إلا إن الناقد البار بتكثيفه اللغوي وبلاغية إنشائية يسموا بعبقرية الشاعر المحضار وبيانه الشعري البديع وعظمة الإبداع الفني ورؤاه ومواقفه في الحياة وطرائق أدائه بهذه الأسلوبية الرفيعة التي يراها تليق بشاعر وصفه بأنه : ( كان بشعره في حياته مالئ الدنيا وشاغل الناس وهو بعد مماته مالئ دنياهم وشاغلهم بأشد مما كان في حياته) [ الكتاب ص4 ]
وبحسب" رينيه ويليك" في كتابه " المنظور التاريخي للنقد الأدبي" القائل: " يمكن تعريف النقد الأدبي بأنه إنشاء عن الأدب.. وبهذا المعنى المعتاد الواسع, فانه يشمل وصف إعمال أدبية محددة , وتحليلها, وتفسيرها, مثلما يشمل تقويمها, ومناقشة مبادئ الأدب, ونظريته الجمالية" , فان الناقد البار بأسلوبه اللغوي البلاغي في متنه النقدي هذا ومتونه السابقة يميل إلى الإنشائية في لغته الأسلوبية مفصحا عن جمالية لغتنا العربية ومدللا على عمقها وغزارة معانيها ومبانيها وإمكانياتها في استيعاب كل مناهج ومدارس النقد الأدبي الحديث وما سيأتي مستقبلا.
وأمر أخير أن للنقد الأدبي الأسلوبي الحديث دور ليس في مقدور الناقد المتمرس والمتمكن تجاهله وهو المثاقفة والتنوير والارتقاء بالذائقة اللغوية لدى المجتمع وفي هذا الصدد يقول د. صالح هويدي: " أن للنقد طبيعة مختلفة عما للأدب- أي الفنون الأدبية المنتجة- وهي طبيعة تفرض لغة خاصة ودورا تنويريا وثقافيا في المجتمع والمسيرة الثقافية, يختلف باختلاف وسائل كل منهما وأهدافه ولغته" [ انظر : النقد الأدبي الحديث.. قضاياه ومناهجه – ص 31]
المحطة الأولى
"الإهداء"
الإهداء على صدر المتن بمختلف تناولته وتحديدا باكورة نتاج جهد كتاب مطبوع, وخاصة في موضوعات الأدب والفن, يعتبر فنا أدبيا قائما بذاته, رغم محدودية أبعاده ومختصر كلماته, وليس شرطا ملزما للمؤلف أن يدبج كل ما يصدره من نتاج بعد هذه الباكورة, فهو حر في ذلك.
وفي تقديرنا أنه دال على شخصية وأخلاقيات الأديب أو الفنان يفصح فيها عن أحاسيسه ومشاعره تجاه من يحب أن يهدي له باكورة نتاجه هذا, وتتجلى فنية هذا اللون الأدبي في محدودية الكلمات المفترض رسمها في إطار "الإهداء" كما هو متعارف عليه, وهذا بحد ذاته تحد للأديب إذ هل في مقدوره أن يلخص مشاعر وأحاسيس إنسانية, تجاه من يهدي له, في بضعة كلمات, أو بيتين أو ثلاث من الشعر, وهو لو بيده الأمر لسطر لمن يخصه بمودته وحبه صفحات مطولة؟!ومن هنا تنماز خاصية هذا اللون الأدبي و فرادته.
في العام 2009, كتب الدكتور محمد عطية الحارثي في جريدة "الرياض" السعودية حلقتين عن فن الإهداء واصفا إياه بأنه: " أدب راق يكتب بماء الذهب, لأن كلماته تسطر الوفاء بأجمل معانيه, وعباراتها تشعرك بروعة الحب" [ فن الإهداء الأدبي- موقع إلكتروني].
ويخلص الدكتور الحارثي بالقول:" إن أدب الإهداء في الرسائل الجامعية أدب جميل ممتع, وحري بالباحثين الاهتمام باهداءاتهم لأنها ستبقى متربعة على صدور رسالتهم التي يفتخرون بإنجازها" [المصدر السابق].
لعلي استرسلت قليلا في تناول فن الإهداء, وعذري الوحيد هنا إنني لاحظت إن البعض من بين ظهرانينا من الأدباء والنقاد لا يعطون هذا اللون الأدبي حق قدره, وبالتالي لا يبذلون جهدا في صياغة إهداء اتهم. لذا في محطتنا هذه سنتناول جمالية ومضمون هذا الفن الأدبي عند الدكتور البار الذي تمثل في تدبيج كتابه هذا بالإهداء القائل :
[ إلى رجلين علمين تعلمت منهما
كيف يحب الشعـــــــــر العامــي
وكيف يكون درسه جزءا من ثقافة الإنسان..
وبعض مكونات
هويته وانتمائـه
إلى :
مـــارون عبــــود من لبنـــان
ومحمد عبد القادر بامطرف من حضرموت
عبد الله ]
بهذا الإهداء الإنساني الصادق والمؤثر قلد الدكتور البار هذين العلمين الشهيرين قلادتي الوفاء والعرفان لفضلهما عليه في تحبيب الشعر العامي إلى نفسه وقد كان صادقا في ذلك,كما سنرى :
فالأول هو الأستاذ مارون حنا عبد الأحد عبود المولود في قرية عين كفاع في التاسع من شهر فبراير عام1886م والمتوفى في الثالث من يونيو عام 1962م أديب وناقد وصحافي وقاص وروائي وشاعر وكاتب مسرحي ومؤرخ ومرب ومترجم وشيخ أدباء لبنان وعميدهم.يعرف بين الأدباء والنقاد،بحسب ما قاله د.حبيب بولس : بأنه(ثائر في نقده على المحنطين وأصحاب المناهج والمدارس النقدية ،لاعتقاده بأن النقد فن وذوق وانطباع وتأثر ،وليس علما توضع له القواعد والأسس والأصول )[أنظر:[كتاب الشعر العامي الشعبي,ميزاته,فنونه ونوادر شعرائه]
كما يقول عنه أحمد عزيز حسن:( كان من أقوى الأصوات النقدية التي ناصرت الأدب الجديد, ودافعت عنه في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية,حتى وفاته في العام 1962م،وهو أول ناقد عربي يؤكد على أهمية الشعر العامي ويحببه إلى نفوس متلقيه) [مارون عبود ناقدا وشاعرا].
اصدر نحو خمسين كتابا في الأدب والنقد الأدبي والسياسة والتاريخ والاجتماع ،ترجم بعضها إلى أكثر من لغة أجنبية .ومن أهم كتبه في النقد:"نقدات عابرة"،" على المحك"،" مجددون
ومجترون"و"دمقس وأرجوان" وفي التأريخ سلسلة "رواد النهضةالحديثة"وما ذكرناه ليس إلا أمثلة لميراثه الباذخوالعلم الثاني هو الأستاذ محمد عبد القادر بامطرف الكندي المولود في مدينة الشحر حاضرة حضرموت الساحل في12 شعبان عام 1332 هجرية،الموافق 25يونيومن العام 1915م والمتوفى في الأول من يوليو عام1988م .
وهو مؤرخ وأديب وناقد وصحافي ومترجم وقاص وكاتب مسرحـــي،ويعتبر شيخ أدباء حضرموت بشهادة الجميع . له مايقارب الثلاثين مؤلفا وكتابا فقد أو بالأصح نهب منها ثمانية عشرة كتابا ومؤلفا ليلة السابع والعشرين من سبتمبر عام 1967م.
ومن أهم كتبه في الشعر:"الشعر الشعبي فن وصناعة "في أربعة أجزاء فقد منها الجزءان الثالث والرابع،"التراث وصناعة الشعر" ،و"الميزان"وهو مؤلف يبحث تسمية وضبط بحور الشعر العامي . ومن مؤلفاته التاريخية "الجامع "في أربعة أجزاء، وكتاب" ملاحظات على ما ذكره الهمداني عن جغرافية حضرموت" و "في سبيل الحكم" إلى جانب العديد من الكتب والمؤلفات التي أثرت المكتبة اليمنية,وعن نظرته للشعر العامي الحضرمي،يقول الأستاذ بامطرف: ( إن أسلوب التفكير والتعبير الشعبي الحضرمي، والناحية العروضية في الشعر الحضرمي,والإدغام والقصر لحركات الروي فيه,واعتبار اللهجة الحضرمية ,كغيرها من اللهجات العربية الصميمة،رافدا يمد اللغة العربية الفصحى بالدسومة والمرونة,واكتشاف الجانب الحضاري الحضرمي عن طريق الشعر الشعبي،وكل هذه ميادين بحث علمي مستقلة بعضها عن بعض وان تداخلت،يجعلنا نأمل أن تتاح للكتاب الحضارم فرصة دراستها والكتابة فيها,وقد تهيأت لهم أسباب العكوف على معالجتها في ظروف مواتية..)[أنظر مقدمته لديوان"دموع العشاق" للمحضارـ ص 18 -19 المكتبة الشعبية – بيروت].
وهاهو الدكتور البار قد حقق أولى هذه الآمال بعد أن حبب هذان العلمان إلى نفسه الشعر العامي,وبجمالية ومضمون "أهدى" كتابه لهما ,وهذا ما دفعنا للتوقف عندهما كمحطة أولى من محطات إبحارنا.ألم أقل لكم أن ل "الإهداء " فوائد فنية ومضمونيه؟!حسنا ،لننتقل إلى محطة إبحارنا الثانية وهي "مقدمة الناقد"
المحطة الثانية
المقدمة (..أن المحضار ليس إلا نشيدا وفنا،وما سوى هذا فحواش على متن)د.عبد الله حسين البارفي مقدمته لهذا " الكتاب" والذي سنستخدم مفردته كدلالة عليه عندما تقتضينا الإشارة إلى المراجع والكتب التي ضمنَّاها سطور قراءتنا هذه فنقول [ الكتاب – ص (..)] وهذا للتمييز ليس إلا. قلنا في مقدمته التي وضعها المؤلف بنفسه, أنه استهل القول بـ ( هذه مقالات في شعر المحضار, كتبتها في أوقات متفرقة, فلم تُحِطْ بها رؤية واحدة منتظمة ولا حَكمَهَا قول نقديٌ بمنهج واحد, نُشر كثير منها في صحف سيارة [...] وكان يمكن لها أن تظل هناك لولا حماسة الأستاذ صالح سعيد باعامر لعزلها عن أمثالها من تلك المقالات ليضمها كتاب [...]
وقد أسميته " شعر المحضار النشيد والفن" ليقيني بأن المحضار ليس إلا نشيدا وفنا وما سوى هذا فحواش على متن) [ الكتاب – ص 4].
هنا نقف قليلا عند قول الناقد البار مفسرا تسميته لكتابه هذا ب "يقينه أن المحضار ليس إلا نشيدا وفنا" وقبله أنه "لم يحكم ما كتبه عن الشاعر "ولا حكمها قول نقدي بمنهج واحد" ليتبين لنا في التفسير الأول أن الدكتور البار قد رسخت قدمه في معالجة النصوص الشعرية العامية إذ بدأ تذوقه للشعر العامي منذ زمن طويل و ابتدأ في الكتابة عنه منذ العام 1993 واصدرٍ كتابه(شعر الغناء في حضرموت)عام 2007 , كما ينم قوله السالف عن تمكن مراسه في مدارس النقد و مناهجه, والتمييز في التعامل مع النص بأسلوبية تنطلق من خصوصيته، لغة وصورة وصوتا, وأنه في هذا المضمار ربما يميل إلى منهج جلاه الدكتور محمد عبد المطلب وأشار إليه الدكتور عبد الله حسين البار بأن طريقته – أي محمد عبد المطلب ـ في التحليل الأسلوبي تتمثل في قراءة النص من خلال خمسة محاور هي :
" محور الذات, ومحور الموضوع, ومحور خطوط الدلالة, ومحور الاستدعاء, ومحور الصياغة) [ أسلوبية النص [...] – د. عبد الله حسين البار- ط (1)- ص 16 – 17], ومن هنا نظر إلى شعر المحضار من محوري " خطوط الدلالة, ومحور الاستدعاء", وهما يقابلان في بعديهما " النشيد ,والفن" ويتيح للنقاد اختيار الاتجاه الذي يتناسب مع لغة النص المنقود لاستكناه جوهره من جهة, واختيار الأداة أو الطريقة التي يتناولون بها هذا النص من جهة أخرى, كما قال عن ذلك الدكتور البار: ( وتلك سمة في النص أفضت بعدد من الدارسين إلى البحث عن محاور متنوعة ينفذون منها إلى النص, ويستقرَّون ظواهر الشعرية فيه, واختلفت بهم السبل لاختلاف المنطلق والإجراء والغاية, ولكن الجامع بينهم هو اتخاذهم " اللغة" – لغة النص- موضوعا للتحليل ولا غير) [ المصدر السابق – ص 11- 12]
والملاحظة
الجديرة بالإشارة إليها هنا تقول: أن الناقد البار ,خلال تناولته للـــــــــــغة الشعرية عند المحضار , كان ينظر إليها من زاويتين أولها : تعامل الشاعر مع النص و فحوى هذا التعامل أنه لا يمكن أن يكون ,املائيآ أو خطابيا ,لان للغة سلطانها المهيمن على الشاعر ,وقد برزت هذه النظرية بوضوح منذ القدم سيما عند ,حازم القرطاجني, في كتابه (المنهاج) والذي فرق فيه بين الشعر والخطابة ,حيث لم يشترط الصدق في اللغة الشعرية بل التأثير .وثانيها : أن النقد ومفهومه النقدي الحديث المبني على أساس أن لغة الشعر كلية لا تتفتت إلى أجزاء(إذ يستحيل النظر الجزئي إلى اللغة الشعرية ومحاسبة الشاعر على المفردة اللغوية حيث التلاحم كاملا بين الرمز و المرموز إليه في الشعر) [انظر : الموقف من الحداثة _د/ عبد الله الغدامي ]
ولعل هذه الملاحظة تقودنا إلى ملاحظة أخرى تتصل باتكاء الناقد البار , في قراءته النقدية لشعر المحضار , على منظور النقد الأدبي الحديث المتعلق بعلم الأدب متوافقا مع ما أشار إليه د/ عبد السلام المسدّي من : )أن الأسلوبية منهج علمي في طرق الأسلوب الأدبي [...] كما أن الذي لا ينازعنا فيه احد هو أن كل نظرية في الأدب تقتضي الاحتكام إلى مقياس الأسلوب باعتباره المظهر الفني الذي له قوام الإبداع الأدبي ) (الأسلوبية والأسلوب ـ ص110)والملاحظة الجديرة بالإشارة هنا تقول :
تكتسب الطبيعة اللفظية الملموسة الخاصة بالصورة أهمية استثنائية حين تكون اللغة فيها اللفظة ( المادة) و (الشكل) بمضمونه في آن واحد, وفي تقديرنا إن هذه الطبيعة عادة ما يختص بها الشعر العامي الغنائي – أي المغنى- , وعادة ما يكون ضميرها المتكلم, وزمنها الحاضر والمستقبل , وذاتيتها الذات, أما موضوعها فيغلب عليه الغزل والعشق, ووظيفتها انفعالية دائمة, وصيغتها الوصف والسرد والحوار, ودلالتها الإيحاء في الغالب.ومن هنا فإن نقد مثل هذا اللون من الشعر – أي العامي- بطرائق ومناهج النقد الأدبي الحديث بما فيها الأسلوبية, وبأسلوبية لغة نقدية كما هي عند الناقد البار, يعد في حد ذاته مغامرة أشار إليها هو بنفسه في إستهلالات كتابه هذا. كما أفصح عنها في إهداء كتابه لي بخط يده، أورده حرفيا هنا, يقول في هذا الإهداء الشخصي : ( بسم الله الرحمن الرحيم.. أخي العزيز الشاعر البديع المبدع علي عمر الصيعري, لقد حاولنا ملكا فأخشى أن لايكون حقيقا فنغامر بالموت فنعذر, مع محبتي / عبد الله حسين البار – 9/11/2011م)فهل نجح الدكتور البار في مغامرته هذه ووفق ؟.!
هذا ما سيتبدى لنا في نهاية مطاف هذه القراءة النمطية المتواضعة في عمل نقدي جريء في تناولته عظيم في بنيانه.والحق أنني لم أقصد, بقراءتي هذه , التطاول على هامة أدبية شامخة, وقامة نقدية سامقة مثل الدكتور عبد الله حسين البار فأشرئب متسامقا إلى مرتبته السامية, لولا دعوة خفية بدرت منه في ثنايا سطر ونصف السطر في مقدمته لكتابه هذا يقول فيها : ( فإن وجد في هذا الكتاب, قارئ – حين يقع بين يديه- ما يحفزه على القراءة فليمض وأجره على الله ) [ الكتاب ص4] ففسرتها – متمنيا ألا أكون أخطأت التفسير- بأن المضي في قراءة عمل كهذا جدير بالقراءة, يتطلب من القارئ رأيا وتقييما في المحصلة الأخيرة, وهذا ما حفزني على الشروع في كتابة هذه القراءة. وما ستطالعونه هنا لا يعدو في كونه سوى اجتهاد ليس إلا, وللمجتهد – كما يقال – نصيبان إن أصاب , ونصيب إن اخطأ.
المحطة الثالثة من هواجس الشعر في ديوان المحضار
( ألا يا نود ساير نحوهم بلِّغ تحياتي
وذكرهم ولو بالبعض من لحني وأبياتي ) (المحضار )أفرد الدكتور البار لهذا الفصل خمسة وستين صفحة،أي ما يفوق ثلث مجموع صفحات الفصول الخمسة التي ضمنها كتابه هذا، لكونها تعد الجذع الذي تتفرع منه أغصان وأفنان دراسته النقدية هذه . وان تجاوز بعض أنساغ هذا الجذع التي تكمل أغراض الشعر عند المحضار أو كما سماها- مجازا – "هواجس الشعر " إلا أنه ابتدأها ب " من " في إشارة استدراك منه لهذا التجاوز معللا ذلك بالقول : (والواقع أن الحديث عن المحضار شاعرا يتسع اتساعا لا تكاد تحيط به هذه الصفحات , بل أنه يتطلب فسحة من الزمن تمكن المرء من التأمل الثاقب الدقيق في ما أشتمل عليه شعره من رؤى ومواقف ) [ الكتاب – ص 9 ]، مع إشارة منه إلى العودة ، في تناولة أخرى ، لما تبقى من أغراض شعر المحضار والتي نذكر منها : المراثي ، الوصف ، والفلكلور المتمثل في"الأوبريتات" التي اشتهر بها المحضار ، إلى جانب الشعر القصصي وغير ذلك من هنالك .وكما قلنا سابقاً إن قراءتنا هذه نمطية و المقصود بها اختيار نماذج من أبواب فصول الكتاب وربما اختيار نماذج من الفصول ذاتها ، فأننا سنقف في هذا الفصل أمام الآتي: :
هاجس الحب في شعر المحضار : الملاحظة الجديرة بالإشارة هنا أن الدكتور البار وفق في سبر أغوار هذا الغرض الشعري الجميل على قدر ما اقتضاه الحيز المتاح له في هذا الباب . فلو سمح لنفسه التوسع في هذا المجال الذي رسم حدوده بنفسه ، مراعاة للتوازن النسبي لأبواب فصول الكتاب ، لتمدد هذا ( الباب ) على مساحة ثلاثة أرباع الكتاب نفسه ، ناهيك عن الاستدلال و الإستطرد اللذان يفرضهما أحياناً منهـــــــــــج الأسلوبية و تفرعاته عند الناقد البار ، كما وفق في اعتبار هاجس الحب أجدر بالتقدمة لأن : ( المحضار شاعر عاشق كابد في عشقه ما كابده العشاق من قبل ومن بعد ، ونعم في عشقه بما ينعم به العشاق حين يشاء لهم الهوى ويشاء لهم المعشوق ذلك ) [ الكتاب – ص 13 ]
و الملاحظة الثانية تقول بأن الناقد البار في كتابه هذا وخاصة في هذا الفصل وبابه الأول ، بدا أكثر تعاطفاً وتفاعلاً و إعجاباً بالنص و الشاعر متماشياً مع طريقة (( السياج الفسيولوجي )) الذي جاء بها (( ليو سبيتزر )) و التي وطد عبرها سبيل الأسلوبية الأدبية بما رامه من بحث الخصائص الأسلوبية للعمل الأدبي و الجمع بين دراسة اللغة و الأدب خلافاً للمعهود من الفصل بينها وهو مالا يقره ، وقد تأتي له ذلك لأنه - كما قيل - يضع نفسه في قلب العمل الأدبي ثم يلتمس مفتاحه في أصالة الصورة اللغوية و الأسلوب .أما منهجه يحسب ما أورده د . محمد منقذ الهاشمي في كتابه (( التركيب اللغوي للأدب - ص 154 - 157 )) فقد أجملة (( فيرو )) في (( ثمانية مطالب )) نشير هنا إلى المطلب الثامن للتدليل على ملاحظتنا الثانية ، يقول هذا المطلب : ( ينبغي أن تكون الأسلوبية نقداً يحدوه تلطف و إعجاب ، إذ لاسبيل إلى استيعاب الأثر الأدبي إلا من داخله ، ومن حيث هو كل ، وذلك ما يستوجب التعاطف مع الأثر وصاحبه ) [ للاطلاع على كامل المطالب التي أوردها الهاشمي ، أنظر كتاب : [الأسلوبية و الأسلوب - د . عبد السلام المسدي - مصدر سابق – ص: 167 -169 ].
فقد قال البار عن المحضار :
( لكن يظل المحضار على الرغم من ذلك شاعراً أمكنته شاعريته من الحديث عن ( الحب ) و إجادة التعبير عن التجربة العاطفية ، [ الكتاب ص 13 ] وقال : (( أن له من القدرة على صياغة الشعر و صنعته ما يمكن من الانفعال بالعديد من التجارب المتنوعة و التعبير عنها بتمكن و اقتدار ) [ نفس المرجع السابق ] ، وقال عنه : (( أنه صادق في كل حالة عشق يصفها ، وهو صادق في تعبيره عن هيامه لكل محبوب يعرض له . ولكن لايقر فيه ، ولايقتصر عليه ) [ الكتاب - ص 18 ] . ويقول كذلك : (( لذا امتلأ شعره بالمشاعر الدافئة ، و الأحاسيس الجياشة التي تركت أصداء في نفوس قراء شعره و مستمعيه ، [ المصدر السابق ] إلى جانب ما سلف وان أوردناه من تقريظ البار للمحضاروهناك العديد من عبارات الإعجاب بالأثر و الشاعر سيلحظها قارئ كتابه هذا. ولاعجب فقد أشار الأقدمون إلى هذا المطلب منذ أمد وأبرزهم محمد بن طباطبا حين قال : ( والشعراء إنما يثابون على ما يستحسن من لطيف ما يوردونه من أشعارهم , و بديع ما يغربونه من معانيهم، وبليغ ما ينظمونه من ألفاظهم، وأنيق ما ينسجونه من وشي قولهم ) [ أنظر: عيار الشعر لابن طباطبا - ج 1ص 13 ]
قد يستغرب أو يتحرز بعض النقاد - الذين ينتهجون مناهج وطرائق أخرى في النقد الأدبي الحديث - من (( الأسلوبية )) التي تحبذ وتدفع بالناقد إلى إبداء الإعجاب و التلطف مع الأثر الأدبي وصاحبه سواء كان شاعرا أو روائيا أو قاصاً أو .. أو ... مثلما فعل الدكتور الناقد البار مع ديوان المحضار و المحضار نفسه، سيما في هذا الباب ونظائره في هذه المحطة الأولى،نتيحه المجاذبة بين المنافرة وبين المناصرة لما جاء به هذا المنهج ، و الذي يفاجئ الجميع بالجديد و الأجدر من الطرائق و الأساليب التي تجعل البعض منهم - أي نقاد النقد العربي - يعتقدون أن الأسلوبيين يعتمدون أحياناً (( المنهج التكاملي ))
و أحيانا (( اللامنهج )) و أقربهم إلى الإنصاف الدكتور شاكر العاني في معرض تناولاته النقدية لأعمال الناقد الدكتور حاتم الصكر النقدية و تحديداً (( الأصابع في موقد الشعر )) و (( مواجهات الصوت القادم )) ، حين استشهد بما قاله الدكتور أحمد مطلوب عن منهج الناقد الصكر : (( أنه منهج يأخذ من القديم بعض وسائله ومن الجديد بعض أدواته ، ولقي هذا النقد قبولاً حسناً لأنه لايقبل النص بالإحصاء ، ولا يرهقه بالإشارات ))
وأضاف د. العاني معلقاً على ذلك بالقول : ( وقد ساعد ذلك حاتم الصكر على الجمع بين المناهج القديمة الموروثة و المناهج الحديثة في النقد ، أنه متخصص في نقد الشعر الذي نمتلك فيه تراثا نقدياً واسعاً ) [ أنظر : دراسات في الأدب و النقد - د . شاكر العاني - ص 243 ]
وفي تقديري أن الدكتور البار يستخدم غالباً تقنية الطريقة التكاملية الذي جاءت بها الأسلوبية لأنه يتناول في نقذه صنوفاً متعددة من الأثر الأدبي تتراوح ما بين الشعر القديم و شعر التفعيلة و أخيراً الشعر العامي ، وهي بدورها تتفرع إلى نصوص أدبية تستدعي تنوعاً في المناهج و طرائقها ، وهو بذلك يحرر الجهد النقدي من القيود و الرتابة اللتان يفرضهما السياج الأكاديمي الممل ، وحتى لايجرفنا تيار الاستطراد بعيدا عن (( أرخبيل )) محطتنا الثالثة هذه، نعود إلى هاجس الحب في شعر المحضار.
يعمد العديد من النقاد المتمرسين إلى تقنيه أسلوب المقارنة أو الموازنة - كما سماها البار - سيما في ما يتفرع عن مركز الأثر في النص الأدبي مثل ( هاجس الحب ) إلا أنهم عادة ما يعممون هذه المقارنة أو الموازنة . غير أن الدكتور البار - في هذا الباب - حدد عنصر هذه التقنية بإجرائه لمقارنه تقويمية بين شعر المحضار في العشق والحب وبين شعر الشاعر الرائع صالح عبد الرحمن المفلحي في ذات الغرض الشعري وكلاهما معاصرين لبعضهما وقتئذ .
و أستهل مقارنته هذه بالقول : ( المحضار شاعر عاشق ، لكن المفلحي عاشق شاعر ) وشرح مقارنته هذه بالقول : ( صفة الشعر في حياه المحضار تسبق صفة العشق وتجئ قبله ، لكن صفة العشق في حياة المفلحي تسبق صفة الشعر وتجئ قبله ) ويستطرد قائلاً : ( الشعر قاد المحضار إلى العشق ، فتاه في وديانه وبواديه . لكن العشق فجر في نفس المفلحي ينابيع الشعر فساغ في نفوسنا معذوذباً )
ثم استدرك قائلاً : ( وليس هذا بمنقص من مكانة الشاعر شيئاً ، لكن يضع تمييزاً بين شاعر وشاعر،و تجربة و تجربة ، وإن لهذا يداً في أتسام شعر المحضار بطرائق أداء فينة لايتسم بها شعر المفلحي مثلا.) (الكتاب - ص 14).
إننا نتفق مع الدكتور البار في صحة مقارنته الذكية بين شاعرية المحضار وشاعرية المفلحي في " هاجس الحب" متكأين على مقاربة معيارية مفادها: أنه عادة ما يثير العشق في كوامن الروح المرهفة ملكات مكتسبة يذكي جذوتها الحب فتبحث عن وسيلة إيصال وينتج عن هذا تجاذب نفسي في دواخل العاشق بينها وبين جوهر وسيلة الإيصال, إما شعرا أو ترنما لحنيا ,ويحكم هذا الصراع أو التجاذب إرادة العاشق في البدء وما أن تتحرر هذه الروح من ذلك التجاذب حتى تتحول إلى ملكة فطرية على شاكلة شعر أو موسيقى أو رسم وغير ذلك حتى تصبح " آلانَّيات" فيبدأ صاحبها بترويضها وتهذيبها وصقلها ثم يأتي بعد ذلك دور المثاقفة ليحدد لغة هذه الوسيلة إما شعرا فصيحا أو حكميا أو عاميا، وكذلك الحال في الموسيقى والغناء إما اعتمادا على ( النوتة) السلم الموسيقي أو على قوادح السماع ( الأذن الموسيقية)فالحفظ .
وتحدونا الإشارة, لتأكيد اتفاقنا مع الناقد البار حول موازنته تلك, أن نذّكر بأن الشاعر ( المفلحي) أشار بنفسه إلى أن ( صفة العشق في حياته تسبق صفة الشعر وتجيء قبله), وذلك في قوله:
( يا لذيك المناظر
منظر الغيد لي يرتاح له كل خاطر
روّح العاشق الشاعر رهين المشاعر
يفرح الزين قلبي لانظرته إلى الزين)
وقوله:
( والنبي لو قايسوا قدر حبي
فيك ضاقت به سموات ربي
والمحبة ظاهره لك يا حبيبي
والمشاعر صغتها لك في الغناء والدان)
كما يؤكد لنا ذلك الأستاذ محمد عبد القادر بامطرف في مقدمته لديوان المفلحي ( خواطر وأنغام) بالقول:" ولدت مع الفنان – أي المفلحي- موهبته الفذة, وفجرها فيه فناننا الكبير المرحوم محمد جمعه خان..)ويعني بـ " موهبته" ملكة اللحن. ثم يستطرد قائلا :" ولم يطل بالمفلحي تطلعه, فقد تأصلت بينه وبين محمد جمعه الصداقة الفنية المتينة.
وأدرك الأخير, بحسه الفني, ما كان ينطوي عليه الشاب الناشئ من موهبة متفتحة فعمل على تشجيعه وتوجيهه, ولم يلبث حتى لحنَّ قصيدتين [ مايس القد] و [ رسول بلِّغ لخلاني السلام] فكان ذلك أول عهد للمفلحي بخوض بحر النشاط والفعالية الفنية).
ويخلص الناقد في موازنته تلك إلى القول بأن :(هَّم المفلحي أن ينفث لوعة في نفسه تتأجج [...] ويتعرف المعشوق إلى بعض ما يكابده عاشقه في هواه, لذلك هو لا يتأنى كثيرا ليصنع شعره ويتأمل شكله وطرائق أدائه.[...[، لكن هم المحضار في صياغة الشعر مزدوج, فهو ينفث في شعره – كعادة الشعراء- ما يكابده من هوى, وما يعانيه من مشكلات تقذفها الحياة في سبيله, لكنه أيضا يقف طويلا أمام ما يصنعه من شعره, يتأمل تقنياته [...] وهو على هذا شاعر بليغ) [ الكتاب – ص 14-15].
وفي
هذا الباب يثير الناقد مسألة وحدانية الحب وتعدده عند المحضار بخلاف ما لمسه من توحد عند المفلحي, وهي مسألة معقدة وضبابية, فتارة يقول المحضار:
( أنا من أجل واحد
تجنبت العرب وبقيت وحدي وحبيت التباعد
ولا فكرت قط وش عاد بعدي
عطيته قسم زايد
وغيره يقبل الزايد إذا زاد)
وتارة أخرى يقول:
( نا ذي عشقتك وصنتك وأنت في صغرك
حيّا زمان الصغر وصبرت بالأمس في شانك وفي جبرك
عالصوب لما جبر واليوم تعبر علي وأنت في بحرك
وشراع طيشك ملان ويتأمل الناقد البار في خوض المحضار بحر الهوى
الزاخر وتقلبه من حبيب لآخر،بيد أنه في كل هذا وذاك يظل في نظره :( صادق اللوعة , صادق الشغف ، صادق الهيام )[الكتاب ص 18 ]ونلمس في ذلك تعاطفه وتفاعله مع الأثر والشاعر.كما يقف طويلا أمام معاناته من نأي الحبيب عنه تارة وأخرى تفضيله البعاد على الوصال ، وهذه ظاهرة قلما يسلم منها عاشق أو محب, لأن المرأة بطبعها ميالة إلى تعمد هذا النأي وذلك الصد المفتعل بحسب تحليل البروفيسور محمد نحيب المتلاوي في قوله :( المرأة تمارس فتنتها وإغراءها بسلطة "بعد المسافة" مع ما يولده ذلك من غموض يتوخاه الحياء الأنثوي , ولعل التستر بالمسافة يولد مفاعيل تتسع لمسافة التأويل والتفسير )[أنظر: رؤى نقدية معاصرة ـ ص12 ]. ويخلص الدكتور البار في تبيين حالة العشق
بمختلف صورها عند المحضار إلى القول :(.. أن المحضار كثيرا ما يصف الحالات النفسية التي تعتريه كلما انغمر في تجربة حب .
انه يرصد الذبذبات الوجدانية في صدره ثم يجسدها في صور وعبارات, وهو في هذا يتميز عن غيره من شعراء الأغنية في حضرموت) و يعطينا مثلا شرودا على ذلك من قول المحضار:
بعد ذاك اليوم زاد الحب في لك والشـغف
عنك أسأل كل شي حتى شبــابيك الخـــلف
وان تغيبت علي دورت في شمس الصيوف وقد وفق الناقد البارفي رصد الحالة
النفسية التي تعتري المحضار المشوق ، واستشهاده بالأبيات السالفة كمثل من عديد أمثلة الرصد لهذه الذبذبات الوجدانية وتجسيدها , وخاصة تلك التي تستثير كوامن الشجن وتؤجج لواعج الشوق في غالبية قصائده، لذا ظل وسيظل الناس يرددون أغانيه .
وفي هذه المسألة يقول الإمام الفيلسوف أبو حامد الغزالي : (أن الشوق وان كان ألما ففيه نوع لذة إذا انتهى إليه رجاء الوصال ،فان الرجاء لذيذ واليأس مؤلم. وقوة لذة الرجاء بحسب قوة الشوق والحب للشيء المرجو .
ففي هذا السماع تهييج العشق وتحريك الشوق وتحصيل لذة الرجاء المقدر في الوصال ، مع الإطناب في وصف المحبوب .) فاستمع إليه يقول:
الشاهد الله أنني من وصلهم مبعد قطعت السهن
من هواهم ما قنع قلبي ولا قال باتــــــوب
ا تعاب جم قاسيتها والعين ما ذاقت لذيذ الوسن
صابني من بعدهم ما صاب يوسف ويعقوب
والوداع في الرحيل يعقبه شوق جارف للحبيب وحنين للألفة وفي هذا يقول المحضار:
الويل لي من مقاساة الفراق الويل ويامـه المـــــره
اجرت د مـوعي على خدي مثيل السيل ومسيت في همـره
ما تنفع الحسره لا غبت وحرمت هذي العين من نظره واحلى ابتسامـه
الله كفيلك حيث ما تمــشي تصحبك السلامــــــه
هذا أمر، والثاني ما قاله فاروق شوشة أثناء عرضه لرائعة "ابن النحاس "الشهيرة والذي يقول مطلعها :
بات ساجي الطرف والشوق يلـح والدجى إن يمض جنح يأت جنحيقول شوشة : (ما وافق شروط الغناء الجميل من جرس جميل وتعبير رشيق ،وموسيقى منسابة، وغزل مفعم بالشوق والحنين.)[مجلة العربي ـالعدد446 ـ يناير69م ]
وأمر أخير,قبل أن نرفع المرساة وننشر القلوع،تجدر بنا الإشارة إلى الذوق الرفيع الذي حدا بالناقد البار لإيراد أبيات منتقاة بعناية من شعر المحضار في هذا الباب .
فالذوق ,بإجماع النقاد ,يعتبر الشرط الأول الذي ينبغي أن يتوافر في الناقد ، تليه الثقافة، ثم المراس والخبرة، وأخيرا ضمير الناقد الأدبي.وعن الذوق ,يقول الدكتور مصطفى عبد الرحمن: ( هو الشرط الأول والأساسي الذي يتحتم أن يتحلى به الناقد لأنه الأساس في كل حكم, والفيصل في كل نقد,والموجه في كل تقديم.) [أنظر كتاب:في النقد الأدبي القديم عند العرب ـ ط 1998 ]
ومن نماذجه المنتقاة بعناية ما أورده البار للمحضار :
(كلما ذكروك قالوا ذبلت أغصونه
وانطفت شمسه وغابت عنده الغونه
كننا لي عــين
ماشافت في الدنيا سواك
شفت فيك السحر لي هم ما يشوفونه
واللطــــافة واللدن والحب وفنونــــه
والجمال الزين
ما هو منهم الله عطاك )[الكتاب ـ ص 23 ]
حسبنا هذا الإبحار في "هاجس الحب" الذي قال عنه المحضار واصفا اياه بالبحر الزاخر:
البحر ناصب للسفاين شرك
كل من دخل وسطه وقف ما سارلأنه ـ
أي المحضارـ شق عبابه عميق الغور فقال عنه :
خضت بحر الهوى سبعين قامه
بعد ما طاب في العشقه مقامي
شفت أهوال جم ما هي قليلـــــه
يا ضنيني تشيب بالمواليد
لنبحر بكم إلى محطة أخرى من هذا الباب
وهي " حب الوطن والحنين إليه."