المعادل الموضوعي في شعر المحضار .. (الطائر أنموذجاً )
عمر سعيد باصريح
المعادل الموضوعي ظاهرةٌ في الشعر الحديث تختصر كثيراً من الإطناب الذي قد يلجأ إليه الشاعر لوصف حالةٍ ما , كما تنأى بالشعر عن التقريرية والكلام المباشر , وتلجُّ به في دوائر التعبير والتضمين , وهو رمز يلجأ إليه الشاعر للدلالة على شيءٍ معين يعادل موضوعيّاً ذلك الشيء داخل النص.
والمعادل الموضوعي في شعر المحضار , ظاهرة تستحق الدراسة , وسأقف هنا أمام أحد الرموز التي اتخذها الشاعر معادلاً موضوعيّاً له وهو رمز الطائر الذي بثَّ من خلاله أفكاره ورؤاه تجاه حالةٍ ما في الوجود.
غير أن الشاعر حينما يتجه إلى الطائر معادلاً موضوعياً له لا يتخذه بصورة واحدة في جميع القصائد وإنما يعبر به عن حالات مختلفة من الفرح والحزن التي تعتريه في أحايين مختلفة , واستقراءً لشعر المحضار في داووينه الأربعة وهي (دموع العشاق , وابتسامات العشاق , وأشجان العشاق , وحنين العشاق) نجد ثلاث صور للطائر حينما يُستخدم معادلاً موضوعيّاً للشاعر , وهذه الصور ناتجةٌ عن الحالة الشعورية التي يقيم عليها كلٌّ منهما , أي الشاعر والطائر :
الأولى : أن يكون الشاعر حزيناً والطائر فرِحاً :
ومن النماذج على ذلك قصيدته (كما الريشه)(1) حيث يقول :
يا طير يا ضاوي إلى عشك قل لي متى بضوي إلى عشي
مليت شفنا هذه العيشه
قلبي من الفرقة كما الريشه
تسرح وتضوي وانت في أرضك يا ريتنا مثلك عمدت أرضي
حتى ولو جمّال عالهيشه
قلبي من الفرقة كما الريشه
الشاعر هنا اتخذ من الطائر معادلاً موضوعياً , يسقط عليه إحساساته ومشاعره تجاه وطنه , كما يسقط عليه آلامه ومتاعبه جرّاء غربته , فالطائر يذهب من عشّه في الصباح الباكر ؛ يبحث عن رزقه , فيحلّق في آفاق واسعة, ثم يعود ليلاً إلى عشّه الذي عشقه وهام به , ولا يرى حريّته وعيشته السعيدة إلاّ فيه, فهو يؤثره على هذه الدنيا الواسعة , والفضاء الرحب. ومن هنا حق للمحضار أن يتخذه معادلاً موضوعياً , فهو أحد الطيور الحضرميّة التي اكتوت بنار المهجر , ولكن المحضار وإن ترك الوطن لظرفٍ قاسٍ فإنه يظل يحنُّ إليه , تماماً كما يحن ذلك الطائر إلى عشه.
فثمة تماثل كبير إذاً بينهما ( الشاعر / الطائر ) , فالطائر يعود إلى عشّه بعد طول العناء والشقاء الذي يكابده طوال يومه , كذلك الشاعر هنا يذهب عن وطنه , ويسيح في البلدان , ويطوّف في الآفاق , ولكنه في نهاية المطاف يرضى من الغنيمة بالإياب , فيعود إلى معشوقته ( الشِّحر ) التي يشقى ويسعد تحت مظلّة شينها المشدّد – كما يقول – وهو راضٍ بتلك العيشة مقتنع بها ولا يحيد عنها.
بيد أن الاختلاف بينهما يتأتى من الحالة الشعورية التي يقيم عليها كلٌّ منهما , فيبدو الطائر في حالةٍ من الفرح والانتعاش , إذ أنَّ الحركة الداخلية التي يقوم بها داخل أرضه ووطنه هي التي هيأت له أسباب ذلك الفرح , يدل على ذلك قوله (تسرح وتضوي وأنت في أرضك) , والواو هنا هي واو الحال , أي وأنت على هذه الحال , فالطائر إذاً سعيد يملك حرية مطلقةً داخل أرضه , أما الشاعر فيبدو حزيناً متألماً من الاغتراب عن الوطن , وكأنما هو يأخذ درساً من هذا الطائر المتشبّث بوطنه. فهو يريد أن يعبّر عن حبه لوطنه ولكنه اتجه بالخطاب إلى ذلك الطائر الذي لم يترك وطنه ولو لحظة. فثمة مؤثران اثنان اجتمعا على الشاعر في هذا النص : أحدهما الوطن, والآخر المحبوب , فهو لا يشكو فراق الوطن فحسب , ولا يشكو فراق المحبوب فحسب , وإنما يشكو فراقهما معاً ومن هنا كان الإحساس بالحزن أكثر عمقاً وأثراً على نفسه.
كم قلت للركاب من قبلك باسير شلوني إلى خلّي
حتى لقوني طرد في خيشه
قلبي من الفرقة كما الريشه
هذه المفارقة في الحالة الشعورية بين الشاعر والطائر تشف عنها علاقة تماثل بين (الوطن) و(العش) , إذ يغدو الوطن بالنسبة للشاعر كالعش بالنسبة للطائر , مما يوحي برغبة الشاعر المهاجر في التعادل مع الطائر المقيم , يعضد ذلك أنَّ الشاعر يماثل بين قلبه وريشة الطائر في تلك اللازمة التي تتكرر في كل مقطع من مقاطع القصيدة (قلبي من الفرقة كما الريشه).
فالعلاقة إذاً قوية بين الشاعر المهاجر والطائر المقيم في وطنه , وقد اتجه الشاعر بالخطاب إلى الطائر العائد إلى عشّه (يا طير يا ضاوي إلى عشك) ولم يخاطب الطائر المهاجر. إذ كان يتوقع من الشاعر حال غربته أن يتجه بخطابه الشعري إلى طائرٍ مهاجرٍ مثله , فيلتقيان معاً في حالة الحزن والحنين إلى الوطن , وسيكون الطائر معادلاً موضوعياً يحمل الهمَّ نفسه الذي يحمله الشاعر , ويوازيه تماماً في الحنين إلى الوطن وربما المحبوب , ويتماثلان في الحالة الشعورية , بيد أن الشاعر لم يفعل ذلك وإنما اتجه بخطابه مباشرة إلى الطائر المقيم في وطنه (ياطير يا ضاوي إلى عشك) ولم يخاطب الطائر المهاجر , وهذا (انزياح) لجأ إليه الشاعر رغبةً في تعميق الإحساس بالحنين إلى الوطن والمحبوب معاً من خلال هذا التضاد الذي يجعل المعادل الموضوعي أكثر قدرة على الإيحاء بعواطف الشاعر ومشاعره , وكأنما أراد أن يقابل حاله في المهجر بحالٍ أخرى حتّى يتبين الفرق بينهما ومدى حبه وإخلاصه لوطنه , ولهذا ختم النص بإثبات حبه لوطنه ومحبوبه , وكأنما هو النتيجة التي توصّل إليها أو الرسالة التي يريد إيصالها من النص :
لأني محب ما في المحبة شك لكنني لا عند من باشكي
الله يعلم حنتي ليشه
قلبي من الفرقة كما الريشة
الثانية : أن يكون الطائر حزيناً والشاعر فرِحاً :
ومن النماذج لهذه الحالة قصيدته التي بعنوان (قدها مقالة) (2) , فإذا كان الشاعر في الحالة الأولى يتشبه بالطائر وهو أحرص ما يكون على التماثل , فإنه في هذه الحالة يدعو الطائر ليتشبه به , فيقول :
يا طير يلّي من فوق الأغصـان تتلفت ... خليك مثلي شل الغناء واشغل البانـه
ما تحسي إلا ساعة ونور الأمل بصبص ... (قدها مقالة) ما تنقطع رحمة الرحمن
يبدو الطائر حزيناً يتلفت على الأغصان , ويبدو الشاعر في المعادل الموضوعي فرحاً منشغلاً بالغناء , ومن هنا نجده يقوم بدوره الطبيعي الذي يتمثل بوظيفة الناصح المرشد للطائر الحزين والمواسي له في محنته (خليك مثلي , شل الغناء , ما تحسي إلا ...) وهي وظيفة اكتسبها من الحالة الشعورية الإيجابية التي يقيم عليها داخل المعادل الموضوعي , ولذلك أسقط الحيرة والقلق والحزن على الطائر , على الرغم أن هذه الصفات هي من صفات الشاعر ذاته في الغربة , بمعنى أن الشاعر هو الحزين والقلق والمتحيّر , كما يدل على ذلك السياق العام للنص , ولكنه في المعادل الموضوعي نسب هذه الصفات إلى الطائر , وانشغل هو باللهو والفرح , ولذلك يدعو الطائر للتشبّه به (خليك مثلي) .
هذا الفرح الذي يظهره الشاعر ينطوي على حزن عميق خلفه , يبدأ من بداية القصيدة حتى نهايتها , ولذلك كانت جملة (قدها مقالة) في النص تمثل في كل مقطع نقطة تحوّل من حالة الحزن والشكوى إلى حالة الإيمان والتأسّي , فهي تخفف من تكاثف الحزن في النص , وكان من حق الشاعر أن ينهي القصيدة بحالةٍ من الحزن العميق دون اللجوء إلى المعادل الموضوعي , بيد أنه (انزاح) في نهاية القصيدة , فبدلاً من أن يجعل الحزن خاصاً به , جعل الطائر هو الحزين , ثم دعاه ليكون مثله (شل الغناء واشغل البانه) , لعلّه يرى وميض أملٍ في ليل الحزن الموحش.
فثمة وعي جمالي لدى الشاعر إذاً في تشكيل ما يعادله موضوعيّاً في النص ففي الحالة الأولى يظهر الشاعر حزيناً بعيداً عن وطنه وممزّقاً في غربته وحينئذٍ يكون الطائر سعيداً يعيش مسروراً , يذهب ويعود إلى عشّه, متمتعاً بالنعمة الكاملة – كما يصوره الشاعر – وهنا نجد الشاعر يتشبه به (يا ريتني مثلك عمدت أرضي).
وفي الحالة الثانية يبدو الطائر حزيناً يتلفت على الأغصان وحينئذٍ يظهر الشاعر بمظهر اللهو والطرب , وهنا يدعو الطائر للتشبه به : (خليك مثلي) ويتجه إليه بالخطاب مواسياً له في محنته من خلال مجموعة من الحِكم (ما تنقطع رحمة الرحمن).
فحين يكون أحدهما حزيناً يكون الآخر فرحاً , وهذا الاختلاف بينهما يجعل النص متوهجاً شعرياً , وهو لا يتعارض مع المعادل الموضوعي , لأن كلا الحالتين في الأصل مختصتان بالشاعر وحده , فهو يتحدّث عن نفسه , وما الطائر الذي يتحدث عنه إلا معادل له في النص.
الثالثة : أن يشترك الشاعر والطائر في حالة الحزن معاً :
ولنا على ذلك نموذج من شعره وهو قصيدته التي بعنوان (يا طير قل لي)(3) , فهنا يبدو الطائر حزيناً يحنُّ إلى إلفه , ويسجع فوق أغصان شجرة البشامة , وكذلك الشاعر فهو حزينٌ أيضاً يحنُّ إلى إلفه تماماً كالطائر: غبش قمري حمامه سجع فوق البشامه
يحن عا ذكر زامه
ولا حن أنا حنيت يا نوب في الجبح حليت وخاطبته بلفظي وجوّب علي قبل يمضي
وذا من حسن حظّي
ومن حسن ما لاقيت يانوب في الجبح حليت
فالشاعر حزين حتى إن بدت هذه السعادة العارضة له التي عبر عنها بحسن الحظ , والتي نتجت عن تجاوب الطائر معه , غير أنَّ تلك فرحةٌ عابرة لا تقوى على إشاعة الفرح في النص , إذ أنَّ الشاعر يشكو خلِاًّ لطالما تناسى الماضي الجميل , وتنكّر لخلّه , لأنه لا يؤمن بأية علاقة سوى علاقة المصالح كما يقول النص.
ومن هنا يبدو الشاعر حريصاً على التوافق بينه وبين الطائر في حالة الحزن , إذ يوحي قوله (ولا حن أنا حنّيت) بأن كليهما يحنُّ إلى محبوبٍ آخر , وكأنما الشاعر وجد له شبيهاً بين الكائنات يحمل المعاناة نفسها التي يحملها هو , ومن هنا كانت بعض السعادة للشاعر لكنها لا تلبث أن تنتهي حينما يتذكر تجربته من خلال تجربة الطائر ويتوجه بالخطاب إلى الطائر :
ألا يا طير قل لي عامنت مشتاق مثلي وخلّك مثل خلِّي
يخونك إذا قفّيت ويا نوب في الجبح حليت
فالحالة عند الطائر هي الحالة عند الشاعر فكلٌ منهما موضوعٌ بين طرفين :
الطرف الأول الشوق الذي يجعله يتطلع إلى مستقبل أفضل مع المحبوب
والطرف الثاني المحبوب الخائن الذي لا يقيم للعلاقة وزناً.
الشوق
الشاعر / الطائر
المحبوب الخائن
النتيجة
اليأس (المؤقت)
وعلى الرغم من أن الشاعر واقع تحت تأثير الشوق من جهة , وضغط المحبوب من جهة أخرى إلا أنه يحاول أن يرتفع عن واقعه الأليم فيظهر شخصاً حكيماً ناصحاً , يدعو الطائر إلى أن يقتنع ويتناسى مادام ذلك المحبوب غائباً , ويخونه إذا غاب عنه لذلك يقول :
سمع مني نصيحة إذا أنت من أهل القريحه قنع ما هي فضيحه
إذا قنعت وتناسيت يانوب في الجبح حليت
لأن الوقت عائب وصاحبك ياخس صاحب يهينك لنت غائب
وان قلت ردك سيت يانوب في الجبح حليت
فثمة ما يسوّغ إذاً للقنع والنسيان إذ ليس النسيان عيباً في مثل هذه الحالة , إذا كان الصاحب لا يقيم للعلاقة وزناً, ولا يحفظ لصاحبه سراً , وكأن الشاعر يحكي تجربةً مرّ بها لذلك الطائر , يحاول أن يتناسى محبوبه ولكنه لا يستطيع , إذ إنَّ الأيام الجميلة التي مر بها الشاعر تمثّل ناقوساً يقرع مشاعر الحنين القديمة عنده , فيعود في رحلة عن طريق التداعي إلى تلك العلاقة القديمة مع محبوبه , ويتمنى أن يعود جميع ما تقدم.
فالشاعر والطائر يتأرجح كلٌ منهما منذ بداية القصيدة بين الشوق واليأس , الذي نتج عنهما حالة الحزن في النص , غير أنَّ اليأس كان نتيجة مؤقتة تختفي في نهاية القصيدة حينما يطغى الطرف الآخر وهو الشوق فينتصر الأمل , يقول :
ولكن ما يخالف عسى يوم فرصه تصادف يرقّين العواطف
ويحي الفؤاد الميت ويا نوب في الجبح حليت
فالشاعر إذاً كان حزيناً يعاني من ذلك الحبيب الجاحد الذي نسي كل شيء , ولكنه بدلاً من أن يصف لنا حالة الحزن عنده وصفاً مباشراً مملاً , أنشأ علاقة مماثلةً مع الطائر وجعل الطائر يعشق عصفورةً أخرى يحنّ إليها , وأنَّ تلك (العصفورة) في أوصافها تشبه إلى حدٍّ كبير (المحبوب) عند المحضار , فهو يضفي على الطائر سمة التشخيص , ويجعل منه معادلاً موضوعياً للشاعر ذاته , يحب مثلما يحب الشاعر , ويقنع مثلما يقنع الشاعر , وإن كان ذلك القنع إلى حين , لأنهما في نهاية المطاف يتعلقان بالأمل , فهذه الحالة الثالثة التي يشترك فيها الشاعر والطائر في حالة الحزن في إطار المعادل الموضوعي.
ثمة مواضع أخرى يستخدم فيها الشاعرُ الطائرَ معادلاً موضوعياً بيد أنَّ الطائر في هذه المواضع ليس معادلاً للشاعر وإنما يعادل أشياء أخرى , ففي قصيدته مثلاً (يا طير متعلي)(4) يستخدم فيها الطائر معادلاً موضوعيّاً للمرأة إذ نفهم من ذلك الحوار بين الشاعر والطائر أن الطائر يعادل المعشوقة , فهو يحمل صفات المعشوقة في النص (التمنّع , والعينين الساحرتين , والتعالي والغرور) بينما يحمل الشاعر صفات العاشق وهي (الإصرار , والمشي ليلاً , والتضحية).
فقلت يا طير شي بصره ذي با تنزلك لي مرّه
قلبي للقياك حن
فقال ما تنزل الزهره والجوهرة لي ببطن الحوت
لا زلت يا طير متعلي ما تعرف الجانب القبلي
من حيث يتحصّل الياقوت
فقلت باتجيبك القدره يا طير لا دخلت الغدره
عالناس والليل جن
باجيك من حيث لا تدرى من غير قادح ولا باروت
لا زلت يا طير متعلي ما تعرف الجانب القبلي
من حيث يتحصّل الياقوت
وشبيه بهذه الحالة حالات أخرى كما في قصيدة (قمري البان) (5) , و (سافري ياحمامه) (6) وغيرها مما لا يعنينا في هذا المقام.
1) ابتسامات العشاق ,حسين المحضار , دار المحبين , بيروت , لبنان : 51
2) نفسه : 234
3) دموع العشاق , حسين المحضار , دار جابر , بيروت , لبنان : 36 , 37
4) ابتسامات العشاق : 142 , 143
5) نفسه : 71
6) حنين العشاق , حسين المحضار , دار حافظ : 95